الهروب بطولة والمقاومة حماقة

مصطفى بالي_

يتابع العالم- الآباء والأمهات – بقلقٍ بالغ وخوف لعبة الدول المسلية، تلك التي انطلقت شرارتها في صقيع روسيا وأوكرانيا، فالدولة بوصفها تراكم لأدوات السلب والنهب والقمع لا تأكل إلا خيرة الشباب، لا ترتوي إلا بالدم، رحاها أبداً تطحن عظام البشرية، وأنيابها تلوك لحمها، إنها اللوثة التي ابتليت بها الإنسانية منذ أمدٍ بعيد.

هنا لا فرق كبير في الاصطفافات، إذ أنه عندما تكتمل الشروط الموضوعية لأي حدث، تصبح الشرارة الأولى التي أشعلتها مجرد تفاصيل، فالحرب لعبة الدولة المفضلة والأكثر تسلية، نتائجها وآثارها متشابهة، في كل مكان وزمان، وقودها الناس والحجارة، وتورم لوثة الدولة في جسد البشرية دمار وخراب مجازر وتهجير، والكثير الكثير من الأكباد الملتاعة والحسرات المخنوقة ولهفة الآباء والأمهات على أطفالهم، ورغبتهم المستحيلة بأن تتوقف عجلة الزمن لكي لا يكبر أطفالهم ولا يشتد عودهم، ريثما ترحل الحرب اللعينة بعيداً.

في الحروب التي تفرض على الشعوب، ثمة أناس عنيدون لا يستسلمون لما فرض عليهم القدر، لا يؤمنون بميزان القوى ولا يرضخون للقوة الغاشمة، يرفعون راية التحدي ليتركوا أثرهم شامةً على جبين التاريخ، ليكونوا درساً وعِبرة بأن الشعوب إن – أرادت الحياة فلا بد أن يستجيب القدر- ولا ضير في ذلك إن كان هؤلاء الناس في كثير من المحطات محكومون بكونهم رجال دولة، فهي لوثة البشرية كما أسلفنا ويبدوا أننا بحاجة لوقت طويل كي نتحرر منها، وبالمثل ثمة رجال يوحي شكلهم وهندامهم وطريقة تفكيرهم بأنهم ساسة وعقلاء، ترتعد فرائصهم خوفاً ورعباً يبدؤون باستفراغ ما في عقولهم من مخزون العبودية ويغلفونها بنصائح لا قيمة لها يدعون إلى الاستسلام والهرب، إنهم أولئك الذين ـ يتهيبون ركوب الخطر- ويعيشون أبد الدهر بين الحفر.

القضية هنا ليست قضية موقف سياسي، لا فرق إن كان موقفنا متناغماً مع الحجج الروسية لإطلاق هذه الحرب، أو العكس، فكل الحروب تُجهز وتُحضر بهدوء في أقبية النظام العالمي بهدوء، لكي يُؤَّمِن بها هذا النظام – نظام البنك -ديمومته واستمراره لا خلاف في ذلك، إنما الخلاف هو في زاوية رؤيتنا لإفرازات هذه الحرب/ الحروب وما يعتريها من رؤى تعبّر عن جوهرنا وحقيقتنا وطبيعة التكوين الأخلاقي، والمنظومة القيمية التي تنتج مواقفنا وتصرفاتنا إزاء الحدث /الحرب /الغزو.

نشر ممثل المجلس الوطني الموصوف بالكردي في إقليم كردستان في صفحته على منصة فيسبوك قائلاً: “قبل أن تكون محارباً، يجب أن تكون عاقلاً، أوكرانيا ستخسر الحرب وستُمنى بانهيار اقتصادي كامل، ستسقط العاصمة وسيُفرض نظام موالي لروسيا، لا يجوز محاربة الدول العظمى من قبل دول صغيرة متحضرة، من مصلحة أوكرانيا خروج الرئيس واستسلام الجيش الأوكراني لحماية أوكرانيا من الدمار المحقق، وإلا ستصبح كالكرد ضحية لمصالح الكبار”.

فالرجل عبّر عن جوهر ما يؤمن به هذا النهج (رفض المقاومة بمسمى التعقل، الخوف من الجوع، لا يجوز للضعيف أن يقاوم القوي، استسلام الرئيس، استسلام الجيش، التسليم بالأمر الواقع) وهي ذاتها الحجج التي سلمت القاضي محمد لحبل المشنقة ليواجه مصيره مع شعبه بكل شجاعة، وهروب قائد جيشه إلى موسكو عرّابة إسقاط مهاباد، وكذلك هي نفس الحجج التي جعلت نفس القائد يهرب مع حاشيته إلى واشنطن عرابة اتفاقية الجزائر ويترك مجموعة كبيرة من رجال البيشمركة الشجعان يواجهون مصيرهم لمقاومة القوة الغاشمة، كذلك هو نفس المنطق الذي يجعل قيادات هذا المجلس يصرحون في كل حين بأن مناطق الغزو التركي في عفرين وسري كانيه آمنة و فيها الكثير من الخبز، ذلك أن هؤلاء هاجسهم أمان جحورهم و تعبئة بطونهم، بينما السبب الذي يجعل أحدنا يقرر التحدي ضد آلة القتل أمر مختلف تماماً، لا يمكن لهؤلاء أن يفهموه أو يتفهموه، إذ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

في عرف هذا النهج منذ (86) عاماً لطالما كانت المقاومة حماقة وصاحب الموقف الشجاع المقاوم أحمقاً، والهروب بطولة وعقلانية ونهجاً قومياً، بيدَ أن العرب قالوا (لا نامت أعين الجبناء).