النهايات الصعبة

مصطفى بالي_

كنهرٍ جارٍ ودعنا عاماً آخر من أعوامنا، ومعه خيرة رفاقنا ومقاتلينا أبناء شعبنا أولئك (الكرد السيئون)، الذين ما زالت أفكارهم وأفعالهم تنغص على الطورانية نومها وتقضِ مضاجعها في كل حينٍ وآن، باعتبارها العدو الوجودي للشعب الكردي، بينما ما زال (الكرد الجيدون) ماضين في غيّهم وضلالهم، لا همَ لهم سوى كسر المجاديف ووهن الهمم.

في خريف العام الماضي وصولاً إلى أواخره ثمة محطات للتأمل والعبر لنستنبط منها القوة والعزيمة والإرادة، نستخلص منها بعض ما قد ينتظرنا أو يحاك لنا، لنتبين الطريق الذي ما زال يروى بالدم والدمع منذ عقودٍ أربع، لا يثني شعبنا عنه قتلٌ ولا تهجير.

في التاسع من تشرين الثاني ولحظة استهداف الطورانية عميد المناضلين الكرد الشهيد “يوسف كلو” قال شقيقه في كلمة مقتضبة أمام ذوي الشهداء: “أيها الشعب الكردي بشراكم إننا على أعتاب النصر والظفر، لا تعيروا بالاً لهؤلاء الوحوش” أي استمروا في نضالكم ولا تترددوا خشية آلة الغدر والإبادة.

فيما بعد وفي معرض النشاطات الاجتماعات والفعاليات المتعلقة بالأزمة السورية، خرج علينا ميخائيل بوغدانوف في أكثر من تصريح ومناسبة عديدة للتأكيد على رفض بلاده لأي مشاريع انفصالية في سوريا، أو فرض الأمر الواقع في سوريا، مع أن بوغدانوف وبما يمثله من موقع لا يمكن أن يطلق خطاباً شعبوياً للاستهلاك الشعبوي أسوةً بشخوص بائسة من المعارضة السورية، فالرجل يمثل قمة هرم الدبلوماسية الروسية، وبيده الكثير من خيوط الحل والربط ليس في سوريا فقط بل في العالم بكل مناطقه الساخنة والباردة.

تخلل ذلك انعقاد قمة أستانة (التي لم أعد أعرف رقم تسلسلها) فكان بيانها الختامي تأكيداً لما ورد في تصريحات بوغدانوف لجهة رفض المشاريع الانفصالية، ورفض (كيانات الأمر الواقع) ولم تخرج تصريحات الدبلوماسية الإيرانية أو التركية عن هذا السياق، فيما كانت تصريحات ساسة ودبلوماسيي حكومة دمشق عبارة عن صدىً ذليل لهذه التصريحات، بالتزامن سُرِّبَت معلومات عن لقاءات أمنية وعودة التنسيق بين أجهزة استخبارات حكومة دمشق مع استخبارات الدولة التركية، لتفعيل اتفاقية أضنة التي ما هي إلا اتفاق البعث /الاتحاد والترقي/ العثمانيين الجدد لإبادة الشعب الكردي، هذه الاتفاقية التي حوّلت سوريا إلى ولاية عثمانية لا غير.

قد يبدو للوهلة الأولى، أنه لا ترابط بين ما قاله شقيق الشهيد يوسف كلو وتصريحات أسياد (الكرد الجيدين) في سياق رؤيتهم للأزمة السورية، وقد يبدو المشهد للوهلة الأولى مأساوياً باعثاً على التشاؤم، سيما وأن العام الذي مضى كان متخماً بالتضحيات الجِسام، مليئاً بأحزان الأمهات صاخباً بالتصعيد الوحشي الطوراني، فقد فيه الشعب الكردي خيرة مناضليه، سعّرت فيها الطورانية حربها بمختلف وسائل القتل والدمار والإبادة، أمام مرأى ومسمع العالم وغالباً بتواطؤ منه ولسان حالهم يقول إما أن تيأسوا وتستسلموا وإما القتل والدمار، حتى أن الكثير من الكرد وغير الكرد وصلوا إلى مشارف الإحباط، وكأن التقنية والقوة الغاشمة هي التي ستحدد المصير والمآل.

المنطق يقول أنه كلما كان هناك إيغال وتوحش هذا يعني أن هناك مقاومة شرسة، ومعطيات مرعبة تخيف وتنغّص العيش على الطرف الذي يصعد والعام الذي سبق ككل أعوام المقاومة المفصلية في تاريخ حركة حرية كردستان، العبرة فيها أن العدو فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق هدفه المتمثل بإركاع الكرد وإعادتهم إلى القبر الذي كان على سفوح آغري، مع فارق بسيط وجوهري هو أنهم عندما دفنوا الكرد هناك، إنما دفنوا شعباً ميتا لا نُعاة له بينما اليوم يحاولون إبادة شعب حي له ملايين الأنصار في مختلف أصقاع الأرض، وآلاف الأصدقاء في مختلف مفاصل القرار العالمي، الفرق هو أن ذاك الكردي المدفون في آغري كان يعرف كيف يبكي ويستعطف، بينما هذا الكردي يعرف كيف يمتص الصدمة ويمارس الفعل لا رد الفعل وهذه الفروق هي ما تجعل العدو في قمة توحشه.

السيد بوغدانوف يعرف أن الكرد ما عادوا أولئك الذين يبكون، إنما هم رأس حربة التغيير في الشرق، لذلك يحاول توجيه الضربات الاستباقية الطورانية ويعرف أن الكرد على أعتاب الحرية وماضون قدماً نحوها، وكذلك الإيرانيون يعرفون ذلك، بينما بؤس سلطة دمشق لا حول لها ولا قوة ولذلك لن تكون إلا صدىً بائس.

هذا المارثون بدأ منذ عقودٍ أربعة و سيستمر حتى خط النهاية، بيد أن كل النهايات صعبة كالمخاض أليمة كجرح فيه ملح، وعليه فإننا أمام مسؤوليات تاريخية جِسام في العام الجديد لنصل بأحلامنا إلى منتهاها.