No Result
View All Result
المشاهدات 0
آخر الكلام ـ مصطفى بالي
ذات يوم من بدايات العام 2007 اُغتيل الصحفي الأرمني ذو الجنسية التركيّة هيرانت دينك بدمٍ بارد وسط مدينة إسطنبول، مما أثار موجة من الغضب في الأوساط العالمية بما فيها داخل تركيا، وللوهلة الأولى يُعتقَد أن عملية اغتياله جرت أو نُفِّذَت على خلفيّة العِداء التاريخي بين الأتراك والأرمن، وحكايا الإبادة الأرمنية، والسِجال المستمر منذ أكثر من قرن حول تفسير أحداث تلك الحقبة المظلمة من تاريخ العلاقات بين شعوب منطقة الشرق ولا سيما الأناضول، إذ يفسرها الأرمن، ومعهم معظم شعوب العالم بأنها كانت إبادة جماعية ممنهجة، فيما تعتبرها تركيا إعادة توطين لمواطني الدولة العثمانية تخللتها بعض التجاوزات.
حقيقةً، ونتيجة النظرة المُسبقة، تم تصنيف عملية الاغتيال في إطار العداء المستمر بين الأتراك والأرمن، واعتبر استمراراً للإبادة التركيّة بحق الأرمن، لكن هذه المرة، لم يولي الجانب الأرمني كثيراً اهتمام بعملية الاغتيال هذه واعتبرها حدثاً داخلياً تركياً.
هيرانت دينك، لم يكن ذلك المثقف أو الناشط القوموي، لم يكن من دعاة الانتقام من الأتراك، كما أنه كان من دعاة طي صفحات الماضي وإيقاف النفخ في الأحقاد الأرمنية، هو كان من ذوي العقل البارد، أولئك الباحثين في تفاصيل التاريخ، غير المنجرفين مع التيار، ورغم إقراره بوجود إبادة جماعية ممنهجة بحق الأرمن، إلا أنه لم يُبرِّئ الضحية من دمها، حمل الأرمن جزءاً غير يسير من المسؤولية عما حدث في تلك الحقبة، وشجعهم في كتاباته للعودة إلى تركيا والعيش بسلام مع الأتراك، هكذا ببساطة وسهولة عبّر عن أفكاره ولم يكن مضطراً أن يكون شعبوياً فجاً في التعبير عن مظلمته.
ما قاله دينك، كان خطراً حقيقياً على الدولة القومية، بمفهومها العام، والدولة القومية هنا لا فرق بينها سواء كان اسمها أرمينيا أو تركيا، هما وجهان لعملة واحدة، تستثمران في المشاعر القومية، تتقاتلان عندما تستدعي الحاجة القتال، وتتصالحان عندما تستدعي الحاجة الصلح، بل وتتكاملان إذا تطلبت المصلحة تكاملهما، لا ضير إن مات بضعة آلاف من الشباب أو أُبيدت قرى ومدن من المدنيين العزّل الذين لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا من رعايا الدولة القومية.
منذ أيام استغرب الكثير من النشطاء تسليم الدولة الأرمنية لاثنين من الثوار الكرد لتركيا كبادرة حُسن نية لإصلاح العلاقات مع تركيا، مندهشين من هذا التصرف غير المبرر وهذا التعاطي لدولة قومية لديها مظلمة تاريخية عند عدوتها، ولكن بنفس الوقت تُسلّم ثواراً مناهضين لذلك العدو لإصلاح ذات البين، وكأن أرمينيا هي التي ارتكبت مجازر بحق الأتراك ومطلوب منها إثبات حُسن النيّة.
مشكلة الكثير من النشطاء، كذلك الكثير من المهتمين بالشأن العام، أن وسائل التواصل قتلت فيهم رغبة البحث والقراءة والاستزادة العلمية، فأصبح الغالبية منهم، نشطاء مستهلكين، يعانون من أميّة رهيبة فيما يتعلق بالإحاطة المعرفية للمواضيع المتداولة على وسائل التواصل، انفعاليين، متذمرين، لا يستطيعون استيعاب ما يحدث، لذلك تصدر منهم ردات فعل هي أقرب إلى لغة الشتائم منها إلى لغة تحليل الظواهر ووضعها في سياقها العام لفهمها واستيعابها.
مثلما كان إعدام لويس الرابع عشر بداية النهاية لعصر الأباطرة، فإن إعدام صدام حسين هو بداية النهاية لعصر (الدولة القومية) منطق التاريخ يقول هذا، شاء من شاء وأبى من أبي، ولكي تطيل الدولة القومية من عمرها ستفعل كل ما في وسعها أن تفعله، من إشعال للحروب، للفتن القومية والعرقية، لتمويل المرتزقة وإطلاق يد العصابات الإجرامية، ودعم التنظيمات الجهادية الرديكالية، من تبادل المعلومات عن الثوار والحركات الثورية وكذلك تبادل الثوار أنفسهم إذا تيسر لهم ذلك.
ثوار كردستان منذ أربعة عقود لم يزدادوا إلا عدةً وعديداً، ولن يضيرهم غدر هنا، وخيانة هناك، تاريخهم يقول ذلك، لكن العِبرة أن نفهم جميعاً، أن شمس الحرية ستبزغ على يدهم لا ريب.
No Result
View All Result