لا حلّ إلا الفطريّة الأولى

صلاح الدين مسلم_

كلّما تضخّمت المدينة تفاوتت طبقاتها، وازدادت الحاجة إلى الموارد الطبيعية خارج المدينة، بدأ الغزو والنهب، وبدأ الطمع والبحث عن مدن أخرى لغزوها، وكلّما ازدادت المدن باتت الحاجة إلى جيش مسلّح مدرّب، ولابدّ من عقيدة تدفع أولئك الجنود للقتال والموت، فلابد للعقيدة أن تكون عُنفيّة، ولا تمتلك الدولة إلّا عقائد المجتمع، فلابدّ من تشويه تلك العقائد لتكون في خدمة السلطة والطبقات التجارية والماليّة، وكانت هذه الأسطوانة تُعاد من حضارة إلى أخرى.

بالمقابل تتفجّر الثورات المجتمعيّة، لتكون ردّة فعل على هذا العنف، (فالعين بالعين والسنّ بالسنّ) وهكذا تتشوّه الثورات وتظهر بلبوس الإرهاب والعنف، وبما أنّ الترسانة الإعلامية للدولة المنتصرة دائماً هي الأقوى، فهي تصوّر الظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً، وهكذا يزداد العنف.

وقد تلجأ السلطة إلى مافيات ورجال لها ضمن المجتمع لتؤلف تنظيمات تموّلها بالمال والعتاد والنفوذ والإعلام، لتكون اليد الضاربة لأيّة ثورات مستقبلية، وتكون أدوات لتخرب دول معادية أو غير منصاعة لها.

لقد كانت العلاقات بين الكومينات علاقة تبادليّة لا تعالي ولا استقواء فيها، فلم يكن مفهوم السلب دارجاً، بل كان تبادل الفائض بمواد غير متوفرة في هذا الكومين على سبيل المثال، وكانت الكومينات تتبادل الإنتاج فيما بينها، وكان لكلّ شخص عمل يقوم به، فلا بطالة في المجتمع الكومينالي.

يعتبر الاقتصاد المجتمعيّ أوّل اقتصاد حقيقيّ، فلا فائض في الإنتاج زيادة عن حاجة الإنسان، ولا تعدّي على الطبيعة، فالعلاقة بين المجتمع والطبيعة علاقة تكامليّة، فلا يعتدي عليها، ولا يقضي على فصيلة دون أخرى، ولا حاجة إلى كلّ هذا الطعام، فالطعام هو للعيش، وليس العيش من أجل الطعام.

تصوّروا مجتمعاً بشرياً دون ملكيّة فرديّة، بل دون وجود فكرة الملكيّة والاستحواذ، وفكرة هذا لي وهذا لك، فقد حاولتْ معظم الأديان من خلال الحنين إلى المجتمع الطبيعيّ ووصفه بمجتمع الجنّة أن تلغي مفهوم الملكيّة ونسبه إلى الله، وقد حاول فلاسفة عدّة أن يتخيّلوا جمهوريات فاضلة لا استغلال فيه، كأفلاطون الذي حاول أن يصف لنا مجتمع الجنة في جمهوريته الفاضلة، لكنّه لم يتخلّص من فكرة الطبقات التي لم توجد حينها، وفي قراءة متأنّية لقصّة حي بن يقظان لابن طفيل التي يصوّر فيها إنساناً ينشأ في الغابات لا تحكمه السلطوية والجشع وحبّ التملّك والتفرّد، كذلك رواية (روبنسون كروزو) الإنسان الذي عاش بين الأدغال وحيداً بعد أن قذفته الأمواج، حتّى صارت الماكينة الإعلامية أداة الرأسمالية العالمية أن تصنّف هذا النوع من التفكير وتضعه تحت البند الميتافيزيقي الماورائي وأنّ هذه الأفلام والروايات هي تحت بند المغامرات والخيال، فلم تكن شخصية أنكيدو خياليّة كما صوّرتها الحداثة الرأسمالية، بل هي شخصية قديمة منذ آلاف السنين، أنكيدو الذي كان يمتلك سرّ الطبيعة وقوّتها، والذي كان يعيش حياةً ملؤها المحبّة وعدم التطلّع إلى المجد والخلود كما كان يفعل جلجامش في قصره الذي يحجبه عن الناس.