سارا كرم_
بارين حجي: “وصيتي هي: أنه إذا مت فادفنوا جثتي في قرية جنوار، لأني هنا أشعر، أني على قيد الحياة وأن لي إرادة ووجوداً”.
“بارين” معناه البركة والعطاء، وكل ما هو حيّ، يثمر، وتتجدد فيه الروح بالعطاء، ففي المجتمع القديم الطبيعي كانت المرأة تحمل أسماء لها معانٍ سامية مرتبطة بالطبيعة الأم، لأن هذه المجتمعات في جوهرها عُدّت المرأة ميراثها الأكبر، فهي من كانت تجدد روح مجتمعاتها بريادتها في المجالات كافة، فكانت منبع العلوم والحضارات، وتحل كل معضلة في مجتمعها، فكانوا يرفعونها مرتبة سامية فلم تكن حاملة شرف العائلة فقط، بل كانت قديسة ملهمة الحياة للطبيعة.
ولكن السؤال الأبرز ما سبب تحولها من مصدر العطاء، والوجود، والفخر ضمن المجتمعات، إلى مكانة خاملة متقوقعة إلى نفسها تدير شؤون المنزل فقط؟ ربما تكون قصة بارين الجواب الشافي لهذه الأسئلة.
قدرٌ مُحتّم!
بارين حجي من قرى ريف الحسكة بشمال وشرق سوريا تبلغ من العمر ثلاثين عاماً، وهي أم لثلاثة أطفال، تعرضت للخذلان والخيانة من الرجل، الذي وثقت به، ولكنها لم تكن تعلم عن الذهنية التي تحارب المرأة منذ آلاف السنين، فتقول، بأنها كانت تردد في سرها: “ربما هذا قدرنا نحن النساء، المرأة المحظوظة تكون حياتها جميلة، أما غير المحظوظة تكون حياتها مأساة، وهذا قدر لا يمكن تغييره”.
بارين كانت فتاة في العشرين من عمرها، والابنة الصغرى لعائلتها، كل ما كانت تعرفه هو قريتها، التي لم تخرج منها البتة، ولم تكن تعرف الكثير من الناس سوى عائلتها ومن حولها، وبينهم أيضاً كانت تشعر بأنه غير مرغوب بها نتيجة تهميش رأيها، ووجودها على غرار أخواتها المتزوجات، اللواتي كان والدهن يتحكم بمصيرهن، ويزوجهن متى، ولمن يشاء حسب تعبيرها.
بارين تشير إلى أنها كانت تتخبط في فراغ كبير حينها، فكانت تشعر دوماً أنها “بلا حول ولا قوة”، وفي هذا الفراغ كان هناك من يتربص بها: “رأى ابن عمي ما أمر به”، والذي كان يكبرها بثلاثين عاماً: “كأفعى سامة بدأ ببطء يضخ سمه في قلبي ليكسب ثقتي، وبتقرّبه لي هذا استطاع أن يؤثّر عليّ، حتى لم أفكر بعمره الذي كان حينها خمسين عاماً، ولم أر حقيقة ما كان يخطط له بخبث، لأن كل ما كان يشغلني، هو أن أحصل على القليل من الحب، وأن يشعر بي أحد، فبت له فريسة”.
ما مرت به بارين يذكرنا ببعض ما جاء في التاريخ، فحسب ما جاء في التاريخ، الذي لم يُحرف بفعل الذكر أنه قبل أن تتأسس القرى، والقبائل، كانت كل أعباء الحياة تقع على عاتق المرأة، “والآن أيضاً هكذا ولكن اختلفت الطريقة”، فالرجل كان دوماً في البراري، ولم يكن له أي وجود، وتأثير فعلي ضمن حياة العائلة، وعلاقته كانت مبنية على الارتباط الجسدي فقط، ومن ثم كل ما تمر به المرأة من حمل، وولادة، وأعباء الحياة، هي وحدها تتحمله، وتديره، وتربي الأطفال وتحميهم، فالطفل لم يكن يشعر بوجود الأب، ولكن بعد مرور عصور استطاعت المرأة أن تجعل الرجل يشعر بالعائلة، فاحتوته، وبعد أن دخل الرجل عالم العائلة، أعلن حربه ضد المرأة، لغيرته من مكانتها الريادية ضمن المجتمع، وبدأ بالعمل على وأد كافة مكتسباتها مكتشفاً عن أنيابه من خلال ذهنيته الذكورية، والاستيلاء على كافة انجازاتها، ونسبها لنفسه.
حياة جديدة أم مأساة!
لم يكن لبارين أية فكرة عن كل ما جرى بحق المرأة منذ فجر التاريخ، وبكلمات معسولة تصبح فريسةً لمصيدة ابن عمها، الذي مثل الذهنية الذكورية المتجذرة منذ آلاف السنوات، فقال لها: “اهربي معي، فأنا ابن عمك ولن أؤذيك أبداً، وسأحبك دوماً، ولن أتركك وحيدة”، تقول بارين: أنها شعرت بالخوف بدايةً، “ولكنني وثقت به”، وقالت في سرها: “لن يخذلني فمهما كان هو ابن عمي، ودمي يجري في عروقه، وإن لم أهرب معه سيزوجني والدي كما أخواتي لمن أراد، ومتى أراد، دون أن يسألنا حتى عن رأينا”.
بعدها ذهبت بارين للعيش معه بين أربعة جدران في الحسكة، في البداية شعرت بأنها حياة جديدة فحسب، ولكن بعدها أيقنت: أنها باتت في سجن، وانقطعت عن عائلتها أيضاً، ولن تستطيع بعد الآن أن تلجأ إليهم، فلن يحويها أحد بعد أن هربت دون علمهم على حد وصفها.
ولكنها تقول: “لم يكن لي أي وجود فيما يتعلق بعائلتي، وكذلك أخوتي، فأقول لنفسي: هل نحن أوقعنا أنفسنا في هذا الفخ؟ أم بسبب عائلتنا وقعنا فيه؟ ورغم كل ما جرى معي، لن يحويني أحد منهم”، أما ابن عمها لم يكن أحسن حالاً معها، فكان يأتي ويذهب متى يشاء، ولم تكن تعلم متى، وإلى أين يذهب؟ وهل سيعود، ليتركها وحيدة في سجنها حتى دون طعام؟
بعد سنة من زواجها أنجبت بارين طفلة، وأسمتها أمل، ليصبح لها بصيص أمل، ولكن بعدها بات وضع زوجها أسوء حيث: “لم يكن يعود للمنزل لأشهر، ولسنوات، وكانت ديونه المادية كثيرة، فكل يوم أصحابه يقرعون بابي، ويطالبونني بديونه، وأحياناً يشتمون ويصرخون علي، وبعد شهور يعود، لكي يلبي رغبته عنوةً ويذهب” ليعيد إلى الأذهان عصر الرجل الوحشي.
مرت سنوات، وبارين عاشت في الجحيم، وباتت أم لثلاث بنات، ليصبح الوضع أسوء يوماً بعد آخر، وتذكر: “أردت أن أترك المنزل، وأخذ بناتي معي، لكن أهل زوجي منعوني، وأخذوا البنات مني”.
