غوغول الغريب الأطوار

عبد الحميد القائد_

يقول دوستويفسكي: “إن الرواية الروسية كلها إنما خرجت من معطف غوغول”. تأثر دوستويفسكي بـأب الأدب الروسي ورائد الواقعية الروسية “نيقولاي غوغول” في بداية حياته، ولكنه سرعان ما أن تجاوزه بمراحل في مجال الإبداع. كما أن شاعر روسيا العظيم ومؤسس الأدب الروسي الحديث “الكسندر بوشكين” أعرب في العديد من المناسبات عن إعجابه بـ”غوغول”.

استهل، غوغول الذي ولد في أوكرانيا في عام 1806م، حياته الأدبية بكتابة القصص في بعض المجلات، مستلهمًا الحكايات السائدة في الريف الأوكراني وعن حياة الفلاحين، بل أدخل في قصصه حكايات السحر والجن بأسلوب فكاهي سلس، استخدم فيها مفردات وأمثلة شعبيه أوكرانية؛ ما جذب أنظار القراء والنقاد إليه. وبعد ذلك كتب ثمان حكايات جمعهما في مجلدين بعنوان “أمسيات في مزرعة قرب ديكانكا”، ليجد نفسه خلال فترة قصيرة كاتبًا شاهقًا بين كتاب ونقاد كبار معروفين مثل بوشكين وجوكوفسكي، وإساكوف وبلينسكي، مولعين ومعجبين بما يكتبه.

وكان غوغول قد غادر بعد تخرجه من المدرسة إلى العاصمة سان بتسبورغ (لنين غراد)، باحثاً عن وظيفة في القطاع الحكومي لكنه فشل في ذلك، ومر بمشاكل مادية كبيرة أتعبته كثيرًا، فحاول أن يصبح ممثلًا، فلم يجتز الامتحانات. ثم أصدر على حسابه الخاص ديوان شعر رومانسي، لم يلتفت إليه أحد؛ ما دعاه إلى جمع نسخ الديوان كلها، ويطعمها للنيران.

 بعد ذلك حالفه الحظ وعُين أستاذًا مساعدًا في أدب العصور الوسطى في جامعة سان بتسبورغ، لكنه لم يجد نفسه في هذه الوظيفة، وسرعان ما أن تركها ليتفرغ للكتابة.

خلال فترة هذا التفرغ أصدر العديد من الأعمال، وهي أرواح ميتة (رواية غير كاملة)، تراس بولبا (قصة قصيرة من مجموعة ميرجورد)، إيفان إيفانوفيتش، وإيفان نيكيفوروفيتش (رواية قصيرة من مجموعة ميرجورد)، مُلاك زمان (قصة من مجموعة ميرجورد)، فِيِّيه (قصة من مجموعة ميرجورد)، البورتريه (قصة)، المعطف (قصة)، الأنف (قصة)، ليلة في مايو (قصة)، الرسالة المفقودة (قصة)، ليلة الكريسماس (قصة)، شارع نيفسكي (قصة)، المنطقة المسحورة (قصة)، مذكرات مجنون (قصة)، إيفان فيودوروفيتش شبونكا وعمته (قصة)، العربة (قصة)، المفتش العام (مسرحية)، الزواج (مسرحية) والأمسيات في قرية قرب ديكانكا (رواية).

كان غوغول غريب الأطباع سليط القلم، ويحكي عنه بعض أصدقائه، إنه كان دائمًا يتحدث عن زوجته، بأنها قالت، وبـأنها فعلت، وبأنها وبأنها ….. ولكنهم لم يروا أبدًا أي امرأة معه في الأماكن العامة، أو حتى في بيته، لأنه في واقع الحال لم يتزوج طوال حياته، بل أن علاقته بالمرأة كانت شبه معدومة. وقيل، إنه أحب فتاتين حبًا عرضيًا، لم يصل إلى مستوى العلاقة.

مرة دخل عليه أصدقاؤه في البيت، وشاهدوه مع امرأة مصنوعة من المطاط شبيهة لدرجة كبيرة بامرأة حقيقية، صنعها له شخص محترف، لم يكشف عنه أبدًا، وكان يعدُّها امرأته.

كان في كل يوم يغير من “باروكاتها” ولون شعرها، وشكل وجهها، أحيانًا يجعلها جميلة وأحيانًا أخرى قبيحة. وكان أحيانًا ينفخ فيها لكي تصبح سمينة، وأحيانًا يقلل من النفخ ويجعلها رشيقة، قيل عنه، إنه كان يشعر بالنفور من النساء، وربما كان هذا هو السبب في عدم دخوله في علاقات غرامية حقيقية، وهذا الجانب من حياته يثير الكثير من التساؤلات!!

وقيل أيضًا، بأنه يتعامل مع الأرواح والأشباح متأثرًا بوالدته، التي كانت معروفة بالشعوذة والاتصال بالأرواح، قال عنه إيفان تورجنيف: “لو أردت وصف غوغول فلن أجد أنسب من كلمة /مجنون/ صفة له … يا له من كائن ذكي ومختل العقل أيضًا”.

يُقال: بأن غوغول التقى في أحد الأيام قسيساً أدخله في متاهات دينية، ووجد نفسه غير قادر على المضي في الكتابة، وكتب غوغول في اعترافات مؤلف: “جلست لكي أكتب فوجدت نفسي غير قادر أن أكتب شيئاً، في كل مرة كنت أحاول الكتابة كان الموضوع ينتهي بمرض وتعب، إلى أن توقفت عن الكتابة مدة طويلة”. فقرر أن يعمل واعظاً دون أن يستعين بقدراته الفنية، فكتب مجموعة من الخواطر، أطلق عليها “مختارات من مراسلاتي مع أصدقائي”، فتم استقبال الكتاب بامتعاظ، وبنقد لاذع حتى أكثر مادحيه، وهو الناقد الشهير بلينسكي كتب إليه قائلاً: “لقد أصبحت واعظاً جلاداً يدافع عن الظلمات، وأبشع أنواع القهر”. فشعر غوغول بأن الرب تخلى عنه وتركه وحيدًا يكابد الأسى، وأصيب بالوسواس وأفرط في الصوم والصلاة والانعزال عن المجتمع، وأدخل القسيس في دماغه أفكاراً تحريمية غريبة وأصدر إليه الأوامر بفعل أشياء خطيرة، منها أن يقوم بحرق مخطوط الجزء الثاني من روايته “أرواح ميتة” الذي لم ينشره بعد، وبعد عشرة أيام من حرقه للجزء الثاني من الرواية توفى غوغول في عام 1954، بسبب الصيام المستمر مصابًا بلوثة جنونية عن عمر يبلغ 42 سنة.