عندما تصبح الخيمة بيتاً والمخيم وطناً!!

جل آغا/ غزال العمر ـ

---

بين آلام النزوح وأمل الحلم بالعودة دمعاتٌ تنزل من محاجر أطفال تركوا بيوتهم وألعابهم وثيابهم؛ ابتساماتٌ يخنقها الحنين؛ همومٌ أتعبتهم وآمالٌ بالرجوع تداعب مخيلتهم بين الحين والآخر

 أجسادٌ تسكن الخيام وأرواحٌ تعانق سري كانيه، وأخرى تحلق فوق قمة جبل عبد العزيز “أطفالٌ لا يعرفون المدرسة ومنهم من يراها لأول مرة”. هذا ما تحدثت به لصحيفتنا معلمة الصف السادس في مدرسة مخيم نوروز “وضحة عثمان“، من ديرك أثناء زيارة ميدانية لصحيفتنا لمخيم نوروز: “أطفال المخيم محرومون من أبسط حقوقهم في التعليم والسكن الآمن والعيش بسلام، أشياءٌ حرمهم منها عدوانٌ وحشي” بهذه العبارات لخصت وضحة مأساة طلابها ورحلة نزوحهم المريرة.

“إنّها المرة الأولى التي نرى فيها  المدرسة!”

كلمة خالطتها الدموع من أطفالٍ يخبرون معلمتهم بها لتساندهم بكلماتها التشجيعية: “وها أنتم الآن تدرسون وتتعلمون ولديكم مدرسة”، هكذا ترد المعلمة على دهشة تلاميذها الذين يدخلون المدرسة لأول مرة.

وتابعت وضحة: “أطفالٌ تحملوا الكثير في رحلة نزوح وصعوبة طريق، جوعٌ وعطش خوفٌ ودم وحلمٌ بالنجاة لتكون الخيمة بيتهم ومسكنهم الجديد، جاؤوا بحالة نفسية سيئة، مما جعلنا كمعلمين أمام مسؤولية كبيرة لإعادة تأهيلهم ودمجهم بالحياة من جديد”.

وعن تجربتها كمعلمة تقوم بواجبها تجاه أطفال يجدون في المدرسة متنفساً لاحتقان تضيق به صدورهم الصغيرة، قالت: “أصعب  شيء في الحياة أن تجعل طفلاً يشعر وكأنه يولد من جديد وتحاول محو آثار الحرب النفسية من شخصيته”.

“متى ستنتهي الحرب؟“

وعن أكثر قصة مؤثرة مرت بها خلال مسيرتها التعليمية لطلاب المخيم الذي تعمل به منذ نشوؤه كلَّمتنا المعلمة: “سألني أحد طلابي ببراءة طفولية وكأنه كان ينتظر سماع إجابة تُخرجه من حَيرته، (آنسة متى ستنتهي الحرب ونرجع لبيتنا؟) ليكون جوابي عفوياً أنت الآن في أيّ صف قال: الثاني، حسناً: في الصف الثالث ستعود أنت ورفاقك، وكبر الطفل وها هو الآن في الصف الخامس “أشعر بالخجل كلما نظرت إلى عينيه التي يملؤها العتب دون أن يتكلم”.

هذا وقد أكدت المعلمة بأنّها تحاول زرع الأمل بقلوب طلابها وتستحضر معهم ذكرياتهم وأغانيهم للوطن ورسومهم لبيوتهم بالألوان والتراب، وتحدثت عن طالبها: “لدّي طالب فقد نعمتي النطق والسمع، لكنّه يستحضر صورة بيته بلوحاته”، لتستمد منه المعلمة طاقة إيجابية تساعدها على إتمام مسيرتها ورسالتها الإنسانية في التعليم.

وعن الصعوبات التي تواجههم في عملهم كمعلمين قالت: “نتمنى من الإدارة الذاتية والمنظمات الأخذ بعين الاعتبار بأن هؤلاء الأطفال بحاجة لإعادة تأهيل نفسي؛ ليندمجوا بالحياة بعد الضغوطات النفسية الصعبة التي مروا بها”.

كما أضافت المعلمة وضحة عثمان بأنّ هناك نقصاً في القرطاسية والحقائب المدرسية لأنه هناك أطفال جاؤوا بثيابهم التي يلبسونها فقط.

قصوا أجنحتهم لكنّهم يحاولون الطيران

ولأطفال المخيم كلماتهم وعباراتهم التي يرددونها كلما هبت نسائم حنينهم لأوطانهم: “نحن نكره أردوغان الذي أخرجنا من بيوتنا”، بهذه الجملة يصف أنس حسين الخضر من طلاب الصف السادس الذي لا تتجاوز ورود عمره إحدى عشرة وردة، رحلة نزوحه وعائلته من سري كانيه: “مررنا بعدة مناطق وسكنا في المدارس ونمنا في العراء لنصل أخيراً لمخيم نوروز”.

وفيما إذا كان أنس يشتاق لبيته: “أشتاق بشدة لبيتي.. لألعابي..”، طفل خنقته الكلمات وانهمرت دموعه لتختصر عليه الكلام.

وللطفلة مريم حمود العلي من طلاب الصف السادس؛ ذات الضفيرة الشقراء والعيون الخضراء المليئة بالأمل والدموع غصة ولدت بعينيها الجميلتين، نظرة حقد لعدوان وحشي مارس الوحشية بحق براعم أجبرها على القول: “لم نستفد من حياتنا شيء”، رددت مريم هذه العبارة التي أتبعتها بعبارة أخرى، تعلن من خلالها تمسكها ببيتها وأرضها: “سنعود وسنلعب أمام بيوتنا”، ملوحة بأصابعها الصغيرة بإشارة تعلن من خلالها التحدي والنصر.

وبشكلٍ جماعي يغني أطفال مخيم نوروز رغم أوجاعهم، ليصدح صوتهم في أرجاء المخيم، أغنية تحكي كلماتها عن فقدانهم للطفولة وتشردهم عن أوطانهم، “صغير وفي قلبي غمة.. نحب نطير.. نطير لفوق.. يحبوا يقصولي جناحي”، تعبيراً عن طفولتهم المسلوبة التي ستعود.

تحية لكلّ دمعة وابتسامة وقطرة دم وجرعة أمل، زودنا بها هؤلاء الصغار الذين ولدوا كباراً ولا زالوا يحاولون التخلص من لعنة الحرب؛ وينفضوا بأجنحتهم الصغيرة غبار التعب وآلام النزوح.