عمل لجان الصلح الاجتماعية… حرب من نوع آخر

تقرير/ صلاح إيبو –

---

روناهي / الشهباء- أكد الناطق باسم لجان الصلح الاجتماعية الحج فيصل حبش أنه بالنظر إلى حالة التهجير والحرمان المادي الذي يعيشه الشعب العفريني، نجد أن مستوى الخلافات أو المشاكل الموجودة في المجتمع قليلة مقارنةً بباقي المجتمعات.

السلم المجتمعي والحفاظ على العادات والتقاليد الحميدة في المجتمع، وبل عودة المجتمع الشرق الأوسطي إلى حالته الطبيعية الكومينالية، هو الفكرة الأساسية من تشكيل لجان الصلح الاجتماعية التي برز دورها مع بداية ثورة روج آفا، واليوم تعمل هذه اللجان إلى جانب مؤسسة الثقافة والفن على خوض حرب وجودية ضد أفكار وعادت دخيلة على المجتمع وتهدف لضرب الترابط الاجتماعي والثقافي المتجذر في مجتمعاتنا والتي كان لها الفضل في حماية وجود شعوب المنطقة، وعلى رأسها الشعب الكردي عبر قرون.

تاريخ الصلح الاجتماعي ليس بجديد ضمن المجتمع الكردي بل هو عادات متجذرة في التاريخ والحضارة الكردية، لكن بعد ظهور مفهوم الدولة والمحاكم وغيرها من الطرق القضائية، تغيرت الأوضاع وبدأ المجتمع يتجه نحو شكلٍ أخر لحل الخلافات والمشاكل، وكان لها جوانب سيئة وأخرى حسنة، لكن بقيت هذه العادة الاجتماعية سارية في بعض القرى بهدف حل الخلافات الاجتماعية ضمن قراهم.

ومع بدأ ثورة روج آفا والشمال السوري، تغير الحال وعاد مفهوم العدالة الاجتماعية ولجان الصلح الاجتماعية من جديد إلى المجتمع الكردي، وتم تخصيص مؤسسة خاصة بهذه اللجان في كافة القرى والكومينات والبلدات حتى باتت هذه اللجان هي اللبنة الأساسية في حل الخلافات وعدم وصولها إلى المحاكم وغيرها من الأماكن المختصة.

ما هي لجان الصلح الاجتماعية؟

لجنة الصلح الاجتماعية هي المؤسسة الأولى التي تم إنشائها بعد الأزمة السورية، وهذه اللجنة أو المؤسسة اختلفت عن باقي الأشكال والهياكل التي ظهرت مع بروز الأزمة السورية، ومكمن الاختلاف أن هذه المؤسسة سعت لنشر السلام والوئام بين الشعب على خلاف باقي التيارات التي ظهرت وعززت مفهوم العنف وغياب العدالة في إشارة إلى مؤسسات مشابهة ظهرت في أجزاء أخرى من سوريا تحت مسمى القضاء الشرعي وغيره من المسميات.

شارك في تشييد هذه المؤسسة في حلب وعفرين عدد من وجهاء وآباء وأمهات عفرين وحلب بهدف حل المشاكل الاجتماعية والمحافظة على الأخلاق الحميدة في المجتمع، وهذه المؤسسة بُنيت مع بدايات بزوغها على أهداف أساسية هي الحفاظ على وحدة المجتمع وعلى الروابط الاجتماعية، إضافةً لحل المشاكل وفق الأطر الاجتماعية المبنية على العدالة والضمير والمبادئ الإنسانية التي لا تظلم أحد والمبنية على مبادئ الدين والعادات والتقاليد السائدة ضمن المجتمع.

قديماً، العادات والتقاليد هي كانت أساس حل المشاكل الاجتماعية، ولكن مع ظهور مفهوم الدولة بدأت المحاكم بالعمل على حل المشاكل عبر الفصل بينهم، ولكن غالباً ما كانت الأحكام تكون منحازة لطرف معين دون رضى الطرف الأخر، لكن في العدالة الاجتماعية، الرضى بين الطرفين هو الأساس، ولكن ليس على حساب السلام والأمن بين المتخاصمين.

واليوم في ظل هذا التهجير الذي عاناه شعب عفرين بُعيد الاحتلال التركي لمقاطعة عفرين في آذار العام المنصرم، بدأت لجنة العدالة الاجتماعية في الإدارة الذاتية بإعادة تنشيط لجنة الصلح الاجتماعية كضرورة ملحة للحفاظ على أساس هذا المجتمع وتمتين العلاقات الاجتماعية والترابط الوطني بين شعوب المجتمع، وفي ظل ظروف النزوح يبقى التأكيد على أن هذا المجتمع الذي كان منظماً في عفرين لدرجة معينة، عاد إلى عافيته في فترة بسيطة مقارنةً بالمآسي التي مر بها من قتل وتشريد، وذلك وفق تأكيدات من الإداريين في لجان الصلح التي تم تنشيطها في النواحي والبلدات التي يقطنها مُهجري عفرين اليوم في الشهباء.

قَلّت الخلافات وتفرغوا لإدارة أنفسهم

ويقول بهذا الخصوص الناطق باسم لجان الصلح الاجتماعية الحج فيصل حبش أنه بالنظر إلى حالة التهجير والحرمان المادي الذي يعشيه الشعب العفريني، نجد أن مستوى الخلافات أو المشاكل الموجودة في المجتمع جد قليلة مقارنةً بباقي المجتمعات أو حتى بمقارنتها مع حالة عفرين قبيل الاحتلال، ومن هنا يقول حبش، “خلال سنة واحدة لم ترد إلى لجنة الصلح الاجتماعية سوى ألف وسبعة وأربعون دعوة مقارنةً بثلاثة أضعاف كانت في عفرين”، وهذا إن دل إنما يدل على أن الشعب هنا في ظل التهجير استطاع وضع الخلافات قدر المستطاع جانباً والتفرغ لكيفية إدارة نفسه، وتحرير مدينته من الاحتلال وفق ما أشار إليه  فيصل حبش.

وبالتفاصيل العددية كان مجمل القضايا الاجتماعية التي وردت للجان الصلح في الشهباء الخاصة بأهالي عفرين هي “1047”، دعوة تم حل ألف دعوة منها خلال عام بعد تهجير أهالي عفرين، ومن مجمل تلك القضايا تم تحويل 31 دعوة فقط إلى لجنة العدالة العامة ليشرف القضاء على الفصل فيها وفق القوانين القضائية العامة، ومن بين القضايا التي تم حلها 347 منها خاصة بالمرأة، وتقدر متوسط الدعاوي اليومية بثلاث فقط، إذ وصل عدد الدعاوي خلال الشهر الأخير 111 دعوة فقط بمجمل لجان الصلح في الشهباء وقرى شيراوا تم حل 74 منها، حيث يقطن أكثر من مئة ألف نسمة.

وتنقسم الدعاوي التي ترد للجان الصلح بين دعاوي المشاجرات، والدعاوي المادية المرتبطة بالحياة اليومية، وبيع العقارات وحوادث السير وفي بعض الأحيان قضايا القتل القديمة التي مازالت أثارها ممتدة إلى اليوم، ويُشير الإداري في لجان الصلح أنه لم تحدث جرائم قتل في هذا المجتمع إلى الآن ولكن هناك حالات وفاة بحوادث السير، والجدير بالذكر أن جرائم السرقة هي الأخرى متدنية جداً بحسب الحج فيصل، والذي أشار إلى أن وضع الشعب والتوعية التي قامت بها الإدارة ساهم بدرجة كبيرة في تقليل جرائم السرقة في هذا المجتمع.

ماذا عن آلية عمل هذه اللجان؟

يتضمن عمل لجان الصلح، مشاورات مع وجهاء العشائر والمنطقة وكبار السن في حال مواجهتهم مشكلة كبيرة، إضافةً لوجود تنسيق مباشر بين وجهاء العشائر والشخصيات المعروفة من عفرين وأهالي الشهباء، وكذلك تنسيق بين لجان الصلح في الشهباء وعفرين، وهنا يقول الحج فيصل أنه لا يوجد فرق بين الشهباء وعفرين، لكن من الناحية التنظيمية عمل كل لجنة منفصل مع وجود تنسيق وتبادل المعارف وحل الخلافات الاجتماعية المشتركة.

وعن العمل اليومي، يُشير فيصل إلى أنه يوجد برنامج عمل يومي للجان الصلح الموزعة في البلدات والمخيمات، إضافةً لوجود أشخاص معروفين برجاحة عقلهم يعملون على مساعدة لجان الصلح، ويؤكد بالقول: “نحن نعمل لحماية هذا المجتمع وفق مبادئ وطنية وقومية، لأن المجتمع الكردي يجب أن يتمسك بثوابته، وشخصيته، ويتدرج العمل وآلية تلقي الدعاوي عبر تسلسل مناطقي، إذ تتلقى اللجان الفرعية في البلدات والمخيمات الدعاوي بالكومينات وهناك يُنظر للدعوى ويتم العمل على حل الخلاف، وفي حال لم يتم الحل ترفع الدعوى إلى لجان الصلح في النواحي، وهنا تتدخل لجان وشخصيات أخرى لحل الخلاف وفق مبادئ أخلاقية واجتماعية عامة، ولكن في حال لم يحل الخلاف هنا أيضاً، آنذاك ترفع الدعوى للجان الصلح في ديوان العدالة وهناك تتشارك اللجان في حلها وإلا سيتم رفعها للقضاء في حال لم يرتضِ الطرفين بالحلول المقترحة، لتكون القوانين القضائية هي الفصل بين المتخاصمين”.

وفيما يخص القضايا الخاصة بالمرأة، هنا في غالب الأحيان يتم الاستعانة بأعضاء من مؤتمر ستار للمساهمة في حال المشاكل الخاصة بالمرأة رغم وجود أعضاء من النساء في اللجان، إذ تتضمن كل لجنة فرعية أو اللجان الأساسية على شخصيات متعددة مشترك بين الرجل والمرأة وممثل عن مؤسسة عوائل الشهداء، إضافةً لاستعانة اللجنة بشخصيات اعتبارية في القرية أو البلدة.

بعض الدول تحاول تشتيت المجتمع وضرب قيَمه

ونوه الشيخ فيصل على أنه ترد بعض الدعاوي التي لا يستطيعون البت فيها، ويورد مثال ذلك، شبكات نشر المخدرات والدعارة، وهنا يقول: “هذه الشبكات تنشط بين الفينة والأخرى هنا في مجتمعنا، وهنا نؤكد على وجود أياد خفية ومنظمات مرتبطة بدول الجوار وراء هذه الشبكات، ولكن غالبيتها تفشل في التغلغل بين شبابنا نتيجة العمل المشترك بين المجتمع والإدارة”.

ويجدر بالذكر أن ديوان العدالة الاجتماعية تمكن من كشف عدد من الشبكات المروجة للمخدرات في الشهباء، إضافةً لشبكات أخرى حاولت تنظيم الدعارة في بعض المناطق التي يقطنها أهالي عفرين، ووفق معلومات خاصة، غالبية الأشخاص المشرفين على تنظيم هذه الشبكات كانوا مرتبطين بجهات داخلية وخارجية معادية للمشروع الديمقراطي الذي تهدف الإدارة الذاتية الديمقراطية لنشره في الشمال السوري وسوريا عامةً، وهنا تأتي أهمية ترابط هذا المجتمع بقيمه الاجتماعية وتقاليده التي حافظ عليها منذ قرون، وحالت دون انصهار هذا الشعب واضمحلال ثقافته المجتمعية، وهذا ما تعمل عليه لجان الصلح الاجتماعية والمؤسسات الثقافية الأخرى كنوع من حروب الدفاع عن النفس ضد الغزو الفكري لأساس المجتمع الكردي الذي بات اليوم أساس المشروع الديمقراطي في الشرق الأوسط.