“على حافّة اليقين”… حين تتوهج الكلمات يقيناً

القس جوزيف إيليا_

---

عن دار التوحيدي في حمص بسوريا صدرت مجموعة النصوص النثرية للشاعرة والكاتبة السورية “ريما آل كلزلي” والتي حملت عنوان “على حافة اليقين”.

إنّ بدء معرفتي بالرّوائيّة والشّاعرة السّوريّة ريما آل كلزلي لا يعود إلى زمنٍ بعيدٍ، مع هذا فإنّي قد استطعت من غير عسرٍ ولا صعوبةٍ أن أكتشف ما لديها من يقينٍ عنيدٍ متجدّدٍ بأهميّة الكلمة عبر التّاريخ البشريّ، وضرورتها ودورها الفعّال في جعل العالم أكثر جمالًا، وأحسن حالًا، وفي دفع الإنسان ليكون أقرب إلى إنسانيّته، وليظلّ خصب الفكر مفعمًا بالرّؤى رقيق الأحاسيس والمشاعر.

لهذا فليس غريبًا عليها أن تقضي معظم وقتها ممسكةً قلمها ومنحنيةً على أوراقها لتكتب وتكتب دونما مللٍ أو كللٍ لكأنّها راهبةٌ منذورةٌ لدير الكتابة موقدةٌ شموع الإبداع وناشرةٌ بخور التّأمّل.

وإنّ الصّورة هذه تظهر أكثر ما تظهر في مجموعتها الشِّعريّة الجديدة الّتي بين أيدينا الآن “على حافّة اليقين” والّتي تؤكّد تمام التّأكيد على صوابيّة وصدق ما ذهبنا إليه من يقينها الشّديد التّام بنجاعة الكلمة، وفعّاليتها في الصّعود بالكائن البشريّ إلى جبال المعنى والنّقاء والخيال، وهي إذ تقول من ضمن ما تقول:

“هي الكلمات

يتوهّج اليقين فيها

فتفرّ إليك”

فإنّها تريد تذكير قارئها بأنّ تاريخ وجود الكلمة ليس مرتبطًا بعهدٍ معيّنٍ محدّدٍ وإنّما هو تاريخٌ عريقٌ طويلٌ مديدٌ يرجع إلى بدء الخليقة فتقول:

“في البدء كان النّصّ

شجرة كلماتٍ ونذورٍ

في صحافها تمائم

لأنثى اسمها كلمات”

وبأنّ المعنى لا يمكن الكشف عنه وتفسيره وتوضيحه وترجمته بمنأى عن الكلمة:

“يا شجرة الكلم

محمّلةٌ أنتِ ثمار المعاني

كلّما ثقلت على غصونك

مالت الكلمات

هي الكلمات

أمّ الأشياء ووجوهها”

والكلمات مع كلّ ذلك ليست معفاةً من الفزع وقد يتملّكها الجزع ويهيمن على أنفاسها الخوف وهي أيضًا قد تُرهب وتخيف في آنٍ واحدٍ:

“يهدهد العطش

وظمأ الشّفاه

فيرتعد الكلام…

أفزعتني الكلمات

حينما دخل اللّيل المدينة”

غير أنّ شاعرتنا في كلّ هذا الخضمّ لا تنسى التّذكير بحقيقة النّغم الّذي ينبعث منطلِقًا من الكلمة ويجعلها لطيفةً محبّبةً يحتاج السّامع المتلقّي إلى إيقاعها المنعش:

“يا سيّد الورد

تلتقط النّغم

من كوّة الجداول

يا ضحكة طفلٍ

أيقظت برنينها طفلةً

 في أعماق قلبي

تنام غافيةً

من الأبد العتيق إلى الأبد”

والكلمة إضافةً إلى ذلك فإنّها لا تكفّ عن معاداة الظلمة والدّخول معها في حربٍ شرسةٍ ضروسٍ بغية القضاء عليها، ونشر التّنوير وإطلاق إشعاعات الوعي والفهم:

“فقومي يا قصيدتي

في أبد اللّحظات المارقة

لا احتراق يرمّد لنا سطوعًا

قومي

ليتناثر العشق أنغامًا في

كمنجات النّور”

وتردّد أيضًا قائلةً:

“وأكتب الشِّعر ضياءً

لمن لم يعودوا يقرؤون الشِّعر”

وإذا كان بمقدور الكلمة أن تنعش وتنير فإنّها لا تعجز عن دفعنا نحو تخوم التّخيّل، وعوالم الحلم والتّوق للخلود:

“وأنت حلمٌ

يرسم الغد حروف شوقٍ

كما الحروف الغامضات

على مسلّات الفراعين”

وما أصدق شاعرتنا حينما توضّح أنّنا من غير وجود الكلمة نشقى ونتعب ونضعف ونصاب بكثيرٍ من الإرهاق ونُطعَن ونُنخَس:

“مرهَقةٌ أنا

مذ سكبت كلماتي كلّها

في دمك

وخسرت الشِّعر

حين أكفّ عن الكلام

سينال جندك من مطعني”

من أجل جميع ما سلف ذكره فإنّ شاعرتنا الواقفة على حافّة يقينها تظلّ داعيةً بقوّةٍ إلى عدم الكفّ عن القول والكلام والتّحدّث إذ تقول:

“يا شهرزاد الكليمة

أشعلي وقيدي الكلام بالكلام

وأنا سأكلّم الطّير بلسانه…

سأتبرّج بالثّقافة

فأنت

لا تحتمل غباء امرأةٍ جميلةٍ”

وما تودّ أن تبيّنه كذلك شاعرتنا عبر هذه الصّفحات هو حقيقة خلود الكلمة وبقاؤها وثباتها، وبأنّ الموت على كلّ جبروته وسطوته وقدرته، لا يستطيع قهرها وإزالتها والحدّ من انتشارها عبر جغرافيا الزّمن:

” تقف الكلمات

في حفل تأبينها

مفعمةً بالجسارة والتّضحية

يرفضها الموت”

وبالتّأكيد فثمّة أشياء أخرى كثيرةٌ في هذا الدّيوان لم أشر إليها في هذه العجالة وقد تقصّدت ترك أمر اكتشافها لك عزيزي القارئ اللّبيب.

وأخيرًا… فلشاعرتنا ألّا تكفّ عن الكلام، ولنا أن نصغي ونسمع لها بشغفٍ وحبٍّ شديدين.