“ظل الماء”.. وأناشيد الظمأ

آراس بيراني-

إذا كان الشعر هو ممارسة للطاقات العاطفية الواعية فإن نصوص المجموعة الشعرية المعنونة بـ “ظل الماء” تأتي محمولة بطاقات حسية تفاعلية مع الأحداث التي راقبها الشاعر وأحسَّ بها عميقاً، فانبرى لها بواقعية مُجنحة بالخيال ومنح مفرداته وجمله الشعرية موسيقا داخلية تناسبت مع إيقاع عام للنص وللموقف الإنساني من الحدث أو الأحداث عموماً، فالشاعر شهد الحرب السوريّة، ورأى الفظائع وتألم لمشاهد الجنازات والموتى، ولقوافل النزوح، كتب بوجع عميق عن الأمهات اللاتي رفضن تصديق عمليات قطع الرؤوس وممارسة الـ “ذبح” فنجد الشاعر يرسم لنا صورة موجعة عن أم “تخيط” رأس ولدها إلى جسده رافضة أن يكون ولدها رقماً من بين الموتى..

كتب عن قامات الشهداء وعن دموع الأمهات وحقائب الرحيل، وصقيع المخيم والبلاد البعيدة في صور شعرية متقنة.

عِبر أربعين قصيدة؛ نتابع تجربة خاصة لكتابة الشعر الكردي فيمنح نصه التحرر الوزني، يحرره من إطاره النمطي القديم، بل و يحطم كل الإطارات القديمة ويصب أبداعه الشعري بوعاء جديد، نكاد نشعر برياح الحداثة الشعرية تهب مجدداً، تحرك سطح البحيرة، ويمنح القصيدة ظلاً قادراً على إرواء عطش وظمأ رحلة طويلة من التجريب في كتابة قصيدة النثر الكردية، فقد اختار الشكل الحديث ليُعبّر بالصور الشعرية عن حاجات الشعر الإنسانية، ليرتقي الشعر ليس بشكله وإنما بمضمونه أيضاً.

كتاب ظل الماء نصوص شعرية حداثية على صعيد الشعر الكردي وهي نصوص لم تأتِ من فراغ، وإنما هناك علامات واضحة على محاولات الشاعر التخلص من القوالب الشعرية الكلاسيكية شكلاً، ومضموناً، رغم تأثره بالتراث الشعري الكردي مفردات وصور ومعاني إلا أنه يتخذ مذهبه الخاص، فنجده يختار صور سوريالية تعتمد الغرائبية، وهو ينحت في بنيوية النص في محاولة تجريبية لتكون القصيدة التي يكتبها مختلفة، متميزة، فيطلق طائره الشعري في فضاء الشعر خارج السرب.

يتدفق الشعر مع ماء الحياة، مع ظلال الحياة حيث الملل والوجع والألم والغربة والسفر والحب والوطن والجوع والموت والحياة، يمنحها رغم رموز القلق الكثير من الأمل عبر بنية نصية متداخلة مع الموسيقا ومرتبطة الإيقاع الداخلي ليثبت لنا أنه يغامر في كتابة مغايرة، ضمن تجربة لغوية حيث اللغة هي المقام الأساس لبناء الأدب والشعر، فالوجود الشعري عند لقمان عبد الرحمن يلتقط أنفاسه، يعتمد على سرعة توارد الصور وسرعة الإيقاع، رغم أن مواضيع الشعر المعاصر متقاربة، بل ربما متطابقة إلى حد كبير، إلا أن الصورة واللغة التي يستخدمها الشاعر تختلف تماماً، وهذا ما نجده في معظم نصوص الكتاب رغم التباين الزمني لتاريخ كتابة نصوص المجموعة، الأسلوب الواضح رغم محاولات التغريب من خلال إقحامه مفردات عامية ليشحن بها النص ويمنحه طاقة إضافية، فالوطن نراه امرأة تذوب عشقاً، ونتألم مع نزفه أيضاً، فجرأة اللفظ والتصوير والتعبير عناصر قادرة على نحت النص وتعرية المعنى فيزيد من قدرة النص على ارتداء السوريالية الرمزية كما فعلها الشاعر الفلسطيني محمود درويش مع نصوصه الأخيرة، ويبقى أن نقول بأن “ظل الماء” يمثل نمطاً رفيعاً يعكس روح العصر وينبض بالانزياح الفكري البنائي الشعري فنياً واجتماعياً، بكل ما يمتلك من نفحات واقعية بطاقات وصور ترتقي إلى قامة لها ظل الماء.