بشار جرار-واشنطن_
ليس المسلمون وحدهم، الذين يحيون في مشرقنا المأزوم المكلوم كل عام شهر رمضان الكريم. هذا الشهر الفضيل، الذي يحل علينا هذا العام ليس تقليديا بكل المعايير، لكن هناك شعوب أخرى رغما عنها تحيي طقوس شهر رمضان، وإن كانت غير مسلمة، وغير مؤمنة به، بسبب هذه الحروب التي تحدث وتقوم مخلفة وراءها الجوع، والحرمان، والتشرد، هذه ليست نظرة سوداوية، فثمة من يصر في “العالم الحر والصحافة الحرة” على قرع طبول الحرب، حتى وإن كانت عالمية ثالثة أو الأخيرة، فيما لو تم استخدام السلاح النووي، وما سبقه وتلاه من أسلحة دمار شامل منها البيولوجي والكيماوي.
في الغالب الأعم، علمتنا الحياة ولقننا التاريخ درسا تلو درس، بأن أصحاب الرؤوس الحامية عادة ما تكون رؤوسهم خاوية، وقلوبهم خربة، لن أخوض في تداعيات تلك الحرب الدائرة الآن على أوكرانيا، وما قد يليها من جولة ثانية في الحرب على سوريا، من أثار تدميرية لأجيال بأكملها لا مجرد دول ونظم.
من اللافت، اعتراف الماكنة الإعلامية، أو بالأصح الدعائية، التي روجت للربيع العربي المذموم المشؤوم، اعترافها قبل أيام أن أزمة الغذاء، التي تخيم على المعمورة بأسرها، كانت السبب الرئيسي لاندلاع ما سموها ثورة في سوريا، الآن يصفون الأمور بمسمياتها: ضرب الجفاف مناطق شاسعة في سورية، هجرة من الريف إلى المدن، سبقها ورافقها تغيير لنظام أساسي في المنطقة بالقوة، لم يطيحوا صداما ولا بعثا، بل حطموا جيشا واقتصادا، وعاثوا فسادا وخلفوا دمارا، وشكلوا خطرا قائما بالصراع على الهوية، حتى صارت “الفوضى الخلاقة” منجلا حصد أرواح الناس على الهوية، ومطرقا أودعوه أو سهلوا إيداعه لأتباع المجرم الإرهابي سيد قطب، منظر الإرهاب العالمي في العصر الحديث.
الخلاصة أن أياما صعبة حارة حارقة، بانتظار عدد من بؤر التوتر في المنطقة، بؤر تم الإعداد لها، وإنضاجها بعناية، حتى تصير مرتعا، وقنبلة قابلة للانفجار، ليس بالضرورة عبر صاعق تقليدي، فشعاع واحد موجّه من الفضاء، أو السماوات الدنيا، كفيل بإحراق ما تبقى من حرجيات، وأعشاب يابسة متعطشة للماء، هنا وهناك. انظر فيما يتم الإعداد له مثلا على الساحة الفلسطينية الإسرائيلية في عمليتي بئر السبع والخضيرة، رغم التسارع والتوسع الأفقي والعمودي في الاتفاقات الإبراهيمية، انظر في تصعيد الحوثي الجنوني مقابل التراجع الأوبامي أمام نظام ملالي طهران، طمعا في اتفاق فيينا الذي يريده الرئيس الأمريكي جو بايدن إنجازا (سيبقى يتيما) في السياسة الخارجية بعد كارثتي أفغانستان وأوكرانيا، وأخيرا انظر إلى عين بكين على تايوان والتذكير بسياسة الصين الواحدة رغم التلويح بعقوبات أمريكية.
والغلاء لا مفر منه، ليس كل القرارات بأيدي النظم الحاكمة – أيدتها أم عارضتها – فنحن كمستهلكين يدنا هي اليد العليا، وقولنا هو الفصل. المعادلات بسيطة: عرض وطلب، مكافحة الغلاء بالاستغناء، الترشيد أصدق أنباء من التقشف، والحياة كلها سلسلة من الخيارات والاختيارات، الخيارات خليط من أمور خارج الإرادة، وأخرى خارج السيطرة، ومساحات رمادية كبيرة من توظيف الإرادة لدراسة، ولفرز الخيارات، وتحويلها إلى اختيارات مدروسة عقليا لا انفعاليا، وتلك قضية وعي فردي وجمعي تصنعها أدوات الثقافة والإعلام لا والوعظ والإرشاد فقط.
لكن أولوية مواسم الصوم المباركة، التي نحياها في مشرقنا، مسلمون، ومسيحيون ويهود -وهي متداخلة متقاطعة هذا العام- تستوجب التمسك، بأن في الصوم صحة بمفهومها الشامل… وأولى ما نحتاجه في قراراتنا الفردية والوطنية هو الكف عن الكذب على الذات، أو التساهل مع كذب الآخرين علينا. “الصدق منجاة” و”الحقيقة تحرر” … لا بركة في رغيف ذل، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.. ورمضان كريم وصوما مقبولا للأخوة والجيران جميعا بلا استثناء…