حوض الخابور العلوي خلال فترة البرونز

 رستم عبدو-

 خلال فترتي البرونز القديم والوسيط (الألف الثالث والألف الثاني ق.م) كانت مدن مناطق حوض الخابور العلوي (أوركيش- شخنا أو شبت إنليل- كاخات- نابادا) محطات رئيسية لمرور القوافل التجارية والدبلوماسيين، وأيضاً معبراً لمرور الجيوش، هذا وتشير العديد من نصوص ماري العائدة إلى القرن الثامن عشر ق.م إلى أهمية حوض الخابور كشريانٍ أساسي للاتصال بين الشمال والجنوب؛ لأنّه كان يوفر الاحتكاك بين الممالك الصغيرة المزدهرة في سهول وسفوح الجبال، وبين الفرات ومدينة ماري، الأمر الذي دفع بملك ماري زمري ليم  Zamri lim في محاولة لإخضاع تلك الممالك (أوركيش – نوار- كاخات- ناخور- اشلاكا- خورا- نابادا- شخنا) في الداخل أو على شواطئ ما يسمى بمثلث الخابور (التقاء الخابور مع الجغجغ)، والتي يبدو من أسمائها أنّ معظمها كانت ممالك هورية، والتي شكّلت فيما بعد نواة الإمبراطورية الهورية – الميتانية حيث كانت واشو كاني عاصمةً لها كما أشارت تلك النصوص إلى طبيعة قاطنيها وتمتعهم بروح التمرد والمهارات القتالية العالية الأمر الذي كان يدفع شمش أدد إلى تجنبهم حين اتخذ من أحد مدنهم عاصمة له، أصبح حوض الخابور فيما بعد (بداية الألف الأول قبل الميلاد) تحت سيطرة القبائل الآرامية القادمة من البادية (مناطق جبل بشري)التي اتَّخذت من حلف (غوزانا) عاصمةً لهم، كما تطرّقت الحوليات الآشورية إلى ذكر مناطق حوض الخابور ومدنه في زمن ملوكها ولا سيما الملك آشور ناصر بال الثاني إلى جانب ذكر نهر هارميش (الجغجغ) التي سميت فيما بعد (أي في الفترة الإسلامية) بنهر هرماس بعد سقوط الدولة الآشورية عام 612 ـ 606 ق.م على يد التحالف الميدي- البابلي أصبحت مناطق حوض الخابور في ذمة الإمبراطورية الميدية الواسعة ثم الإخمينية والإغريقية من بعدهم.

حافظ حوض الخابور على دوره كأهم المواقع الجغرافية والاستراتيجية خلال الفترة الرومانية (القرون الأولى الميلادية) والبيزنطية (القرن السادس الميلادي زمن حاكمها ديوقليسيان) حيث كانت مدينة نيزيبيس (نصيبين)، الواقعة في الجزء العلوي من مثلثها على ضفة نهر مكدونيوس (الجغجغ)، أحد المراكز الجمركية الرئيسية الثلاث لتجارة مادة الحرير إلى جانب كاليكوم على نهر الفرات وأرناكسات في أرمينيا.

استمرّ دور حوض الخابور كمعبر هام للاتصال بين حواضر الشرق حتى الفترة الأيوبية (القرن الثاني عشر الميلادي) في بدايات القرن الخامس عشر الميلادي تعرّض حوض الخابور للغزو المغولي، حيث عمد تيمورلنك إلى تخريب وتدمير مدنها وبلداتها.

كانت تتموضع على نهر الخابور مجموعة من السدود الطبيعية، وكانت هذه السدود مبنية من التراب، ومسلّحة بِحِزمٍ من القصب المتشابك والمترابط مع بعضه البعض والمستند إلى أوتاد.

كان موضوع النقل التجاري في نهر الخابور صعباً نوعاً ما، ويشكِّل عقبة أمام نقل المراكب بسبب سرعة جريان النهر، وللتغلّب على هذا الوضع كان على السفن المنحدرة أن تحدَّ من سرعتها بوساطة أثقالٍ من الحجر تربط إليها لتحتكّ بعد ذلك مع قاع النهر في حين كانت المِلاحة الصاعدة تعتمد حصراً على السفن القاطرة (الكبيرة)، وهذا النوع من الملاحة كان يتطلّب عدداً كبيراً من العاملين وجهداً بدنياً لا يُستهان به.

شكّل حوض الخابور العلوي أو “الدلتا غير البحري” كما أسماه مارك لوبو عبر تاريخه، شرياناً أساسياً، ومفتاح العقد بسبب موقعه الجيواستراتيجي كونه كان يقع في منتصف المسافة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب حيث المدن والممالك القديمة وبالتالي كان بمثابة نقطة اتّصال للتحولات الكبرى الثقافية والاقتصادية والسياسية خلال المراحل التاريخية المختلفة.