الشركس؛ صانعو الحضارات والتراث الشعبي

منبج/ آزاد كردي –

---

في رسالة إلى فريدريك إنجلز، قال كارل ماركس «هاتان القضيتان، قمع البولونية واحتلال القفقاس، هما في رأيي الحدثان الأوربيان الأكثر أهمية منذ عام 1815م». لم يكن الشركس الذين هُجروا في مناطق شتى من العالم بلا حضارة عريقة، وإنما حضارتهم أبت أن تندثر أو يمحوها الزمن نتيجة وقوفهم مع بعضهم البعض متلاحمين، كما يقول المثل الشركسي «تعمل الأصابع معاً وتتعاون رغم ما بينها من تباين».

أصل الشركس

الشراكسة من أقدم الشعوب التي وجِدت في بلاد القوقاز لكنهم هاجروا تحت تأثير الحروب التي اندلعت هناك إلى بلاد الشام. ويُعرف عن الشركس حفاظهم على مزاياهم القبلية إلى الآن، ويُحسب لهم أنهم لم يندمجوا بالشعوب الأخرى في مقابل اندماج بعض الجماعات ممن سكنوا معهم كالروس والروس البيض وأبناء عمومتهم من السلافيين والأرمن والكرجين (سكان جورجيا)، ورغم ذلك تحلى الشركس بقسط واسع من الخصال المميزة وبقيت عاداتهم القديمة مرعية محترمة فيما بينهم يتلقاها الجيل الجديد عن الجيل الذي قبله.

موطنهم الأصلي

سكن الشركس بلاد القوقاز، والقوقاز هي هذه الجبال الشامخة التي كانت تشتهر في التاريخ القديم بمن سكنها من الأقوام، فكان أهلها يسمون بالخزر واللان، وتسمى بلادهم بالسرير أيضاً لوقوعها في الجهة الشمالية الغربية من جبال القوقاز.

وعند الأسلاف يسمونها جبال (قبق) أو جبال (قبج)، أما الأخلاف يسمونهم القفقاس، أو القفقاز، أو القوقاز، في عدم ثبات على إحدى هذه الألفاظ، وإن كان البعض يذكر اللفظين معاً في مقال واحد أو كتاب واحد.

وتعريفاً الشركس هم؛ الأديغة الذين سكنوا القوقاز، وهناك اختلاف بأصل وجودهم على أقوال، أهمها اثنين:

الأول: أنهم من أوائل الشعوب التي سكنت القوقاز.

والثاني: أنهم أقوام من الحثيين اتجهوا من جهة الجنوب إلى القوقاز، وعُرفوا بحضارة عريقة وحرب مع السومريين العراقيين أضعفتهم مما اضطرهم للهجرة شمالاً.

ومهما يكن فقد حافظ الشركس على صفاتهم المتميزة ومن ذلك لغتهم العريقة رغم ما تعرضوا له من حروب وتهجير.

بقي عدد الشركس قليلاً في موطنهم الأصلي قبل تهجيرهم إلى مناطق شتى، وربما مرد ذلك إلى ما عانوه من فظائع الحروب وطبيعة بلادهم الجبلية الوعرة التي لا تجذب المهاجرين إليها بخلاف الأراضي السهلة النهرية التي يتكاثر سكانها كما هو عليه الحال في الهند ومصر على سبيل المثال.

أصل التسمية

الإديغي هم الشركس، و(أديغة) اسم قومي لهم، وأصل الكلمة (اتي خه) صارت التاء فيه دالاً فأصبحت الكلمة (أديغي)، أما الخاء فإنها تنطق بلغتهم مع مخرج يقع بين مخرجي الخاء والغين في حرف لا نظير له في العربية، لذلك تكتب غيناً.

ويعني لفظ الأديغة؛ النجيب، أو الأصيل، ولا يزال إلى الآن يقال لمن يتحلى منهم بخلق رفيع، وصفات نبيلة: إنك (إديغي) حقاً.

اسم شركس

أول من ذكر الشركس هو المؤرخ سترابون في القرن الأول للميلاد؛ الشراكسة باسم (جيكس) أو (جيكت)، كما أن المؤرخ يلين سماهم سرست أو كرك.

وأغلب الظن أن هذه الأسماء خاصة لبعض القبائل الشركسية سكنت شمال القوقاز باسم (سيراكس)، أما عند اليونانيين فأخذوا اسم شركس من (كركس) أو (سيرست) وهو يعود إلى إحدى قبائل الشركس، أما بالنسبة لمؤرخي العرب فيُعرفون باسم سركس أو سراكس.

الكتابة والأدب

لم تكتب اللغة الشركسية إلا حديثاً، أي في أواخر القرن السابق حيث ظهرت في قفقاسيا بعض الكتابات الشركسية بالأحرف الروسية، ثم في تركيا في أوائل هذا العصر بالأحرف العربية أولاً وبالأحرف اللاتينية بعد ذلك وكانت الكتابات في تركيا عبارة عن كتب هجائية ونحوية مع بعض القصص وأشعار تعليم الأولاد ألفها محمد علي بجيحا لوقه وتيمه سيين وهارون باتوق وعمر حلمي تسيي وغيرهم وصدرت جريدتين في المهجر في أوقات مختلفة:

جريدة غوازه (Vuaze) في الآستانة قبل الحرب العالمية الأولى، وجريدة مارج (Marg) في القنيطرة (سوريا) من عام ۱۹۲۷ حتى عام ۱۹۳۲م. وتأسست أيضاً مدرستان في المهجر: إحداهما للبنات في الآستانة قديماً والثانية للبنين والبنات في القنيطرة.

للغة الشركسية لهجتان: لهجة (جئاك) ولهجة (قبردي) ويوجد بعض الاختلافات في اللفظ بين قبائل الجئاك ولكنها ليست اختلافات أساسية تتعلق بقواعد اللغة فهي مجرد لهجات ولغة واحدة عند الجميع.

الشركس والإسلام

انتشر الإسلام جنوب بلاد القوقاز وبلاد الكرج سنة ۲۲ هـ الذي يوافق لسنة 600 م، ثم جاء من بعدهم الداغستانيون (اللزكي)، كما انتشر غرباً إلى بلاد القبرداي، وساهم في نشره أمراء القوم طولاً وعرضاً، ومن هؤلاء؛ الأمير (عادل كراي) الذي استدعى العلماء المسلمين من القرم، وأرسلهم إلى بلاده لتعليم الدين، وأسس المدارس والمساجد، وصاهر القبرداي، وحببهم في دين الله، فأطاعته القبائل.

وجاء بعده علي فرح باشا سنة ۱۱۹۰هـ، المُعيّن والياً من قبل الدولة العثمانية حيث بنى المساجد ونشر الإسلام في سائر البلاد.

العادات والتقاليد عند الشراكسة:

تنعت العادات والتقاليد عند الشركس باسم الأديغه خابزة، وهي بمثابة دساتير غير مكتوبة تنظم المجتمعات الشركسية إلى الوقت الراهن ومنها ما يلي:

التواضع والأنفة

لا يتفاخر الشركس ببطولاتهم أثناء الحرب على ألّا تكون ضرباً من التكبر والرياء إلا بعد وفاة أصحابها أو تقدمهم بالسن ولا يسمح للشعراء بذم المنافس أو الخصم، وهو إلى ذلك يحتفظ بالهدوء وقدرة على التسامح مخافة إحراج الآخرين.

ومن المستحب تحمّل الفارس لآلامه كونها تعبّر عن رجولته، كما يقال في المثل الشركسي «أن تموت رجلاً أو أن تموت»، ومن ثباته استقباله لعواده أثناء مرضه مهما كان سوء وضعه الصحي في المقابل ينبغي على الشواب تسلية المريض طوال فترة مرضه بإقامة حفلات في بيته حتى لا يشعر بالملل.

مكانة المرأة

تتمتع المرأة في المجتمع الشركسي بمكانةٍ مرموقةٍ، وتُعد المرجع لنساء العائلة بكل صغيرة وكبيرة بما في ذلك انتقاء زوجات الأبناء وأزواج الفتيات وتُحسِن تدبير المنزل بكل المناسبات، وتستطيع المرأة إيقاف مشاجرة أو اقتتال بمجرد وضع يدها على غطاء رأسها أو رميه حتى تكف المتشاجرين والمتناحرين، ومن فضائل مكانة المرأة أن تجالس الرجال وأن تُدلي برأيها، كما تتمتع المرأة الفارسة بالفروسية حتى الوقت الحاضر.

وتكتسب الفتاة الشركسية حقوقاً إن بلغت الرشد، فتحضر الأفراح وتستقبل الأصدقاء بحضور شقيقتها أو صديقتها – وذلك مع مراعاة حُسن الخلق وحُسن التصرف – حتى تتعرف إلى من يتقدم لخطبتها ولتعلم طبائعه وخلقه حيث يقال في المثل الشركسي «كما تعود ابنتك، والعروس كما اعتادت».

ويكنُّ الرجال للمرأة احتراماً كبيراً من ذلك أن يقفوا إن مرت أمامهم امرأة منهم، وإذا التقى فارس بطريق عام حيث يترجل تقديراً لها حتى تمضي أما إذا التقى بها بمنطقة نائية فيقوم بإيصالها إلى حيث تريد وهو سائر على يسارها بينهما الحصان.

احترام الكبير

احترام الكبار محل إجلال وتقدير بغض النظر عن الجنس أو المكانة الاجتماعية أو وظائفهم أو مراكزهم ولا يجوز الإساءة لأحدهم وإذا ما حدث ذلك تفرض له عقوبة مناسبة.

ولا يحق للفتى الجلوس أمام والده أو أخيه الأكبر، ولا ينبغي له مشاركة الكبار في أحاديثهم لا سيما في اجتماع الكبار أو رفع أصواتهم في الحديث إلا بمقدار من التواضع والأدب، ولا يجوز للصغار وضع اليد في الجيب أمام الكبار ولا الوقوف المنحنى ولا التدخين أو مضغ البان.

إكرام الضيف

تُنشِئ العائلات الشركسية مضافةً للضيوف منفصلة عن بيت العائلة، وتُخصص بهدف تأمين راحة للضيف، وتحتوي عادةً على منضدة وسرير وسجادة وإبريق ماء وحمام وبعض الآلات الموسيقية بالإضافة إلى مؤونة وافية ودائمة، إلى جانب بقاءها مفتوحة ليل نهار لكل عابري السبيل دون استئذان صاحب البيت.

ويدعو المضيف الجيران والأصدقاء والمعارف ممن يرونهم مناسبين في العمر لمجالسة الضيف، ويقيم حفلات سمر تحتوي على الرقص والغناء وألعاب التسلية ومسابقات الفروسية، في المقابل لا يكون للضيف حق التدخّل في أي شأن من شؤون عائلة المضيف.

ولا يُستحسن للضيف الخروج من بيت الضيافة إلا لأمر موجب، بالإضافة إلى ذلك من المستحب عدم الإطالة حتى لا يُحرج مضيفه، وهكذا كانت المضافة مدرسة الشباب التي يطلون منها على العالم ويكتسبون المعارف والقيم والمُثل.

الزي الشركسي

يمتاز اللباس الشركسي بالأناقة باعتماده على التطريز بخيوطِ الفضة والذهب، وعادةً يتكون لباس الرجل من بنطال يضيق عند الساق ويُشد بشريحة تحت القدم، وحذاء من الجلد يصل إلى ما تحت الركبة، وبلوزة أو صدرية ذات ياقة مرتفعة ورداء من الجوخ الأسود أو الرمادي.

ويزيّن منطقة الصدر جیبان مزركشان بخيوطٍ من الذهب أو الفضة وهما في الأصل جرابان لتخزين العيارات النارية، ويشد في مكان الوسط نطاق من الجلد تعلق عليه القامة (الخنجر الشركسي) بخيوط من الفضة أو الذهب، أما غطاء الرأس فهو القلبق. أما لباس المرأة فيتكون من الفستان الداخلي والجاكيت الطويل والكمر الفضة أو الذهب والبائة أو القبعة، وإذا كان الشال فوق البائة يدل على أنها فتاة، أما إذا كان تحت البائة يدل على أنها متزوجة، أما بالنسبة للحذاء (جاقة) فهو عبارة عن قبقاب خشبي حتى يبقي الجسم ممشوقاً وأطول، وزي المرأة بالحرب نفس لباس الرجل لكنه يختلف في اللون، وإلى ذلك ينبغي على الفتاة تعلم الرقص من الصغر.

المراجع

-د. عوني تغوّج، الشركس عاداتهم وتقاليدهم، دراسة بحثية، جامعة اليرموك الأردنية

-محمد بن ناصر العبودي، عام 1999م، بلاد الشركس- الإديغي– ط 1، مكتبة الملك فهد الوطنية

– أمين سمكوغ، عام 1984م، مدخل إلى تاريخ الشراكسة، دار دمشق.