ليلى موسى (ممثلة مجلس سوريا الديمقراطية بمصر)_
تجلت المعرفة عبر مسيرتها التاريخية على هيئة صور وأشكال وأنواع مختلفة مترابطة مبنية على تراكمات تاريخية عمرها آلاف السنين لنتاجات تطور الوعي والفهم والإدراك البشري، حيث أن المعرفة تشكلت كنتيجة للعلاقة الديالكتيكية الوثيقة مع الطبيعية الأم. إذاً، فالمعرفة التي هي من نتاجات الحياة المجتمعية بكافة تفاعلاتها كتركيبة لمفرزات العلاقة الجدلية بين الطبيعة الأولى (الأم) والطبيعة الثانية (الإنسان).
بناء على هذه المعادلة الديالكتيكية ما بين الطبيعة الأولى الأم مع الطبيعية الثانية الإنسان كانت النتيجة تأسيس لكيان اجتماعي “المجتمع” الذي أسس فيما بعد للمنظومة المعرفية.
وحتى يتمكن هذا الكيان المجتمعي من الاستمرار والبقاء وضمان بقاء أمنه الوجودي وديمومته، من هنا جاء تأسيس المعرفة بناءً على تلك الضرورات التاريخية حتى يتمكن الإنسان من تحقيق الأمن والاستقرار، والذي لم يكن ممكناً إلا عبر خلق منظومة متكاملة من المعرفة تؤمن له سبل التكيف والتأقلم مع عالمه الخارجي. ذلك العالم الآخر المختلف وبنفس الوقت المكمل له بكل ما يحتويه من عوالم الحيوانات والنباتات والجماد، وعالمه الداخلي، عالم متصالح مع ذاته ومحيطه مبدداً لشكوكه وقلقه والحيرة التي تعتريه ومتحرراً من أسر ذلك المجهول وتهديداته عبر إزالة الستار عنه.
فتحقيق الأمن والسلام يبدأ أولاً من العالمي الداخلي عبر اكتشافه وإدراكه وتنميته، ومن ثم العالم الخارجي. لذا مرحلة البحث عن الذات أولاً ومن ثم الطبيعة ثانية، حتى يتمكن البشر من اكتشاف الخارج وتحقيق الأمن والاستقرار فيه، حيث أنه لن يتمكن من العيش بسلامة طالما هناك حالة غليان وصراعات وقلق وشكوك تهدد عالمه الداخلي، وبالتالي ستلقي بتداعياتها على محيطه عبر العلاقة الديالكتيكية التي تربطه بعالمه الاجتماعي والطبيعي.
ولعل هذا ما دفع بسقراط إلى تبني مقولته الشهيرة مكتوبة على أحد معابد أثينا متأثراً بها “أيها الإنسان أعرف نفسك بنفسك”، حيث أن دعوة سقراط هذه جاءت بعد مسيرة طويلة للفلاسفة للبحث في الطبيعة. وبالرغم من تمكنهم من إزالة الستار عن الكثير من التساؤلات حول الطبيعة ومكوناتها، إلا أنها ظلت ناقصة ولم تتمكن من تحرير الإنسان من أسر كابوس الذات المجهولة، وكما يقال بالمثل الشعبي “فاقد الشيء لا يعطيه”.
فمركزية الذات أولاً في المعرفة لم تلغِ الموضوع (الطبيعة والمجتمع وفي الكثير من الأحيان يكون الذات هو الموضوع) الذي انجبته وأنشأته وشكلته، بل على العكس كان تجسيداً لحقيقة تكامل العلاقة الديالكتيكة ما بين الجزء والكل، حيث أن الجزء يدرك من خلال الكل والعكس صحيح.
اكتشاف أسرار الطبيعة والمجتمع والإنسان مكنه من التكيف في ظل جميع الظروف والشروط، ومواجهة جميع التحديدات وتخطي العقبات، ومنح قيمة لذاته الإنسانية وتحقيق تفرده عن باقي الكائنات. وبنفس الوقت تقدير وتقديس لجميع الموجودات لما لها من أهمية ودور في ضمان أمنه الإنساني والوجودي.
هذه المعرفة تأسست إما نتيجة لحاجة مادية أو معنوية أو أنها نتيجة لعبقرية الذهنية البشرية. هذه المعرفة تأسست وتطورت وتقدمت كنتيجة طبيعية وضرورة من ضرورات السيرورة التاريخية، هادفة إلى حماية الإنسان وأن ضمان ديمومته من ديمومة وبقاء الطبيعة الأم. لذا، في كل عملية اكتشاف تبعها عملية تقديس لما لذلك المعلوم المكتشف لما يحمله من قيمة وأهمية وجودية لضمان سيرورة الحياة، حيث تميزت مسيرة المعرفة في مراحلها الأولية بصبغة إيمانية عقائدية تقديسية للمكتشف وإعلاء من منزلته إلى جانب احترام وتقدير للآخر من دون أن يكون هناك عملية إقصاء أو إلغاء على العكس تماماً كانت درجة القدسية والعناية تمنح بحسب الدور والعطاء الذي يقوم به ويمنحه.
فالعلاقة بين الذات والموضوع في إطارها الديالكتيكي ظلت في حالة تكاملية. لكن في عالمنا هذا الذي لم يبقى شيء إلا طالته يد التخريب والتشويه، وبالرغم من نشأة المعرفة لأهداف نبيلة وإنسانية تعرضت لتشوهات أخرجت في الكثير من الأحيان من جوهرها. وكانت تداعياتها كارثية وهدامة لكونها القوة المحركة للسلوك وبكافة أشكاله، وبل تسببت في الكثير من الأحيان في إخراج الإنسان من إنسانيته واغترابه عن جوهره وحقيقته.
قبل أن نخوص في تجليات المعرفة ومراحل تطورها ودورها في المجتمعات والأشكال التي اتخذتها ينبغي أن نتوقف قليلاً على تعريفها لغة واصطلاحاً.
المعرفة لغة
بحسب معجم اللغة العربية المعاصرة:
مصدر ميميّ من عرَفَ/ عرَفَ بـ، مَعرِفة مباشرة: مَعرِفة تنتفي فيها الواسطة بين الذات العارفة والموضوع المعروف.
-
إدراك الشَّيء على ما هو عليه “هو أكثر منك مَعرِفة لهذا الموضوع، المَعرِفة قوَّة، حدث هذا بمَعرِفته: بعلمه، واطِّلاعه – النَّشاط بغير مَعرِفة حُمْق”، يَعرِفُه حقَّ، المَعرِفة: يعرفه جيِّدًا.
المَعرِفة:
-
حصيلة التَّعلُّم عبر العصور.
-
ضدّ النّكرة، الاسم الدّال على مُعيَّن.