الصوم بين الضمير الديني الشعبي والهوس السياسي

د. علي أبو الخير_

 كل عام والمسلمون وكل البشرية بخير في شهر رمضان المبارك، شهر الصيام، ولقد وجدنا أنفسنا مدفوعين دفعاً للحديث عن الصوم عند المسلمين ومن قبلهم المسيحيين واليهود، وعلاقة السياسة بفريضة الصوم، ونكتب أولاً عن الديانات السماوية المنتسبة لإبراهيم أبي الأنبياء، فلقد عرفت كل الأديان السماوية والأرضية فريضة الصوم ومحاربة جشع النفس البشرية، حيث تلتقي النفس الإنسانية بضميرها لتكون نفساً لوامة، تطمئن بها النفوس المعذبة، ومحاولة لردم الفجوة بين الأغنياء والفقراء، من أفراد ودول وشعوب، والدفاع عن المستضعفين أيّاً كان جنسهم أ دينهم أو مذهبهم، خاصةً، ونحن نعيش مأساة الشعب الفلسطيني، حيث تقوم إسرائيل منذ شهور بعمليات إبادة جماعية في قطاع غزة.

كما يأتي شهر رمضان متزامناً مع مرور ربع قرن من الزمان على سجن القائد الأممي عبد الله أوجلان، كما لا ينفك الرئيس التركي أردوغان يقتل ويسجن الشعب الكردي، ولا يمنحهم حقوقهم، والمسلمون غائبون عن القضايا الإسلامية الحقيقية، خاصةً تلك التي للسياسة الظالمة دور فيها، أو بسبب الهوس السياسي السلطاني، رغم أنه من المفترض يكون شهر رمضان شهراً لمحاربة الفقر والجهل، لكن المسلمين حاضرون في الشعائر الشكلية غائبون في محاربة الطغيان..

على أية حال؛ فإن الحقيقة أن معظم الأديان حوّلت الصوم لشعيرة دنيوية بقدر كبير من المغالاة من إسراف في المطعم والملبس، هذا على المستوى الشعبي، وعلى المستوى السياسي، فقد خطف الساسة عبر العصور فريضة الصوم لخدمة سلطانهم، فهم يوزعون الجوائز في ليلة القدر على الشيوخ ليمنحوهم شرعية الحكم، وأبداً لم يحدث أن وّزعت جوائز على فهم القرآن مع حفظه.

فريضة الصوم في الإسلام 

لقد فرض الله الصوم على الناس المسلمين، وجعل الصيام أحد أركان الإسلام الخمسة، كما أن الصيام بوجه عام فرض على الأمم السابقة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وقد أشارت الآية الكريمة عن صوم العذراء مريم: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا)، وهو في ظاهره الإمساك عن الكلام، وهو ما حدث مع زكريا عندما أعطاه الله آية فلم يستطع الكلام في حالة أشبه بالصيام القسري.

صيام اليهود والمسيحيين 

ومن صيام السابقين صوم اليهود في يوم الغفران شكرًا لله على نجاة موسى وقومه من فرعون، واليهود المعاصرون يصومون ستة أيام في السنة، وأتقياؤهم يصومون شهرًا، وهم يفطرون كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة عند ظهور النجوم.

وفي أسفار العهدين القديم والجديد، نجد أن قدماء اليهود كانوا لا يكتفون في صيامهم بالامتناع عن الطعام والشراب من المساء إلى المساء، بل كانوا يمضون الصيام مضطجعين على الحصى والتراب في حزن عميق.

وفي سفر الخروج أن موسى كان هناك عند الرب أربعين نهارًا وأربعين ليلة لم يأكل خبزًا ولم يشرب ماءً، وجاء في كلام النبي حزقيال أن صيامه كان عن اللحوم وما ينتج عن الحيوان، وكان النبي دانيال يمتنع عن اللحوم وعن الأطعمة الشهية مدة ثلاثة أسابيع، وجاء في الترجمة السبعينية أن النبي داود قال: ركبتاي ضعفتا من الصوم، ولحمي تغير من أكل الزيت.

وفي إنجيل متى أن المسيح صام أربعين يومًا في البرية، والمسيحيون يصومون كل سنة أربعين يومًا أو خمسة وخمسين يوماً حسب المذهب الذي يدين به.

الصيام في الأديان الأرضية 

الصيام إذن من ضمن الفطرة، ولا نجد ديناً من الأديان ليس فيه عبادة الصوم، وحتى الذين لا يدينون بدين سماوي كان عندهم صيام كالبراهمة والبوذيين في الهند والتبت والصين، وطقوسهم فيها نوع منه الامتناع عن تناول أي شيء حتى ابتلاع الريق لمدة أربع وعشرين ساعة، وقد يمتد ثلاثة أيام لا يتناولون كل يوم إلا قدحًا من الشاي.

خلاصة القول

إن عبادة الصوم إذن عبادة إلهية لخدمة البشر، وختم الله الشرائع بالإسلام، فاستقر الصوم على ما يصومه المسلمين.

والصيام في الإسلام ليس فيه عنت ولا تفريط، وهو خلال شهر من العام يجتمع فيه كل المسلمين في كل بقاع الأرض يتراحمون بينهم ويؤدون الزكاة العامة وزكاة الفطر، ونجد نفوس المسلمين مطمئنة مستبشرة تهفو للتراحم، هذا على المستوى الشعبي، لأن ضمائر الشعوب أكثر نقاءً من ضمائر الحكام والسلاطين والرؤساء.

وليت المسلمين اليوم يتركون المشاحنات السياسية ويتفقون على أن يكون شهر رمضان شهراً للوحدة، بعيداً عن أطماع السلطة وأهواء من يريدون تلك السلطة… وبعيداً عن تخمة البطون وفقر العقول … اللهم استجب … آمين…