قامشلو/ عبد الرحمن محمد ـ
لم تكن سوريا عامة، ومناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا خاصة، بمعزل عن أجواء المنع والحظر والشلل شبه التام، الذي شهده العالم أجمع، وبخاصة فيما يتعلق بالواقع الاقتصادي، والحياة الثقافية، إذ أن أغلب النشاطات الثقافية، وبخاصة الفعاليات الجماهيرية، ذات الطابع العالمي، كمهرجانات السينما ومعارض الكتب، ومهرجانات الرقص والموسيقا، توقفت.
للعام الثاني على التوالي خيمت جائحة كورونا على أغلب بلدان العالم، واصابت الحياة الثقافية بشلل شبه تام، غير أن فرصاً عديدة تم استغلالها في دول شتى، وأُقيمت العديد من الفعاليات الثقافية، عندما كانت هجمات الجائحة تخف، فتخف معها شروط الحظر، ومنع إقامة التجمعات، وأُقيمت العديد من الفعاليات الهامة، كمعارض الكتب في مصر، والإمارات ومهرجان السينما، ومعارض للفن التشكيلي في عواصم عدة، فبرز وبشكل جلي العشرات من الفعاليات الثقافية على وسائل التواصل الاجتماعي، عبر تطبيقات خاصة (زووم)، وغيرها، أقيمت من خلالها ندوات وجلسات حوارية ثقافية، وكذلك نُقشت العشرات من الأعمال الأدبية، والأمسيات الشعرية، ومنتديات حوارية ثقافية، أسست لما بات يُعرف بالأدب الافتراضي عبر الانترنت، وباتت أشبه ما يكون بالبديل عن تلك الفعاليات المباشرة، والحية، التي كانت تقام على مدار الساعة، وباتت تستقطب الكثير من المهتمين والعاملين في مجال الثقافة والأدب.
احتفاءٌ بالكتاب رغم الصِّعاب
لم يعد معرض الكتاب، الذي يقام بشكل دوري كل عام بتاريخ الـ ٢٠ من تموز، في قامشلو مجرد حدث تقليدي سنوي، ونشاط ثقافي، يُقام لأيام وتنتهي فعالياته، بل أصبح من الأحداث الثقافية الهامة، التي تشهدها مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وتحرص المؤسسات الثقافية ذات الشأن، على إقامته في كل عام بموعده المحدد، الذي يتزامن مع استشهاد الشخصية الوطنية والثقافية القيادية “حسين شاويش” هركول، واطلق اسمه على المعرض تكريماً له، كونه كان من القامات الثقافية البارزة، التي عملت لسنوات مع نخبة من المثقفين والمفكرين، لتطوير الحراك الثقافي، والدفع به إلى الأمام، وخلق حالة ثقافية تنويرية منفتحة على الثقافات كلها، محافظة في الوقت ذاته على خصوصية ثقافة المنطقة وتفردها وتميزها.
النسخة الخامسة من المعرض، أُقيم هذا العام في مركز محمد شيخو للثقافة والفن، وشهد إقبالاً متميزاً من حيث عدد الزوار، ومشاركات واسعة من قبل دور النشر، والأشخاص المشاركين بنتاجاتهم الأدبية، وتنوعاً في النشاطات الثقافية والفنية الموازية، كمعارض الصور والمحاضرات، وتوقيع الكتب والندوات الحوارية، ما أكسب المعرض أهمية أكثر، ليصبح من أهم الفعاليات الثقافية في المنطقة، والمعرض في هذا العام ضم حوالي /١٣٠ ألف/ كتاب، وعرض ما يقارب /١٣ ألف/ عنوان في شتى المحاور، والمجالات الثقافية، والفكرية، والتراثية، وعناوين في العلوم والتكنولوجيا والإعلام، وبلغات عدة منها الكردية، والعربية، والسريانية، والتركية، والانكليزية، وشارك فيه قرابة أربعين دار نشر ومؤسسة ثقافية، وشخصيات مستقلة من شمال وشرق سوريا، وبعض الدول العربية، وأجزاء كردستان، وتراصت الكتب والمجلدات الهامة في أروقة وأجنحة المعرض، وحتى على الأرضيات، وخلق الازدحام بفعل الإقبال ارباكاً للمنظمين وبخاصة أن أجواء كورونا، لم تكن قد رحلت بعد عن المنطقة.
النشاطات الموازية لم تكن أقل حظاً من صالات عرض الكتب، واحتفى العديد من الكتاب بتوقيع كتبهم، ونتاجهم في أجواء مفعمة برائحة الإبداع، وزهوة الكتابة، وشهدت أروقة المعرض توقيع عشرات الكتب، التي تنوعت في موضوعاتها، وفي هوية لغة كتابتها، كما أقيمت عدة معارض للصور، وتضمن برنامج المعرض ندوات ثقافية وفكرية يومية، وجلسات حوارية ثقافية، اشترك فيها العشرات من المثقفين من كتاب، وشعراء، وإعلاميين، ناقشت فيها واقع وصعوبات واتجاهات الحراك الثقافي في المنطقة والعالم، واقتنى محبو الكتب وعشاق القراءة، العشرات، بل المئات من الكتب رغم أن أسعار الكتب حلقت عالياً، وعجز الكثيرون عن الحصول عليها، وبخاصة تلك الكتب التي كانت تعرض في أجنحة قدمت من الخارج.
رغم الصعوبات والمعوقات في التحضيرات كلها، والإقامة والإشراف إلا أن الاحتفاء بالكتاب، والاهتمام به كان طاغياً خلال المعرض، وبخاصة في ظل غياب العديد من النشاطات الثقافية، والترفيهية، واستطاع المعرض أن يكون فرصة لالتقاء الكتاب والقراء، ومحبي ومتذوقي الأدب، وخلق أجواء من الروح الحميمية، التي باتت تُفتقد في زمن الكورونا، ووسائل التواصل الإلكترونية.
المؤسَّسات الثّقافيَّة والنّهوض بالثّقافة المجتمعيّة
منذ تأسيس الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وقبل ذلك إعلان الإدارة الذاتية في إقليم الجزيرة، وهيئة الثقافة تعمل على قدم وساق، للدفع بالحراك الثقافي، والفني للأمام، والنهوض بالثقافة المجتمعية المتكاملة المبنية على التسامح، وقبول الآخر، وعلى مبادئ إخوة الشعوب، والأمة الديمقراطية، وبمساعدة وتكاتف الجهود المشتركة مع المراكز الثقافية في المناطق، والأقاليم والبلدات، والتي تنظم لحركة ميزوبوتاميا للثقافة والفن الديمقراطي، وما تقدمه هذه المراكز من خدمات جليلة، حيث تضم هذه المراكز العشرات من الفرق الفنية والثقافية، وتسعى لتقديم وتطوير الثقافة المجتمعية المشتركة بتنوعاتها وهويتها المتعددة من عربية وكردية وسريانية وشركسية وتركمانية، وغيرها من الثقافات الأصيلة، وتعمل على إحياء التراث الشعبي المتنوع، والتعريف به في الداخل والخارج عبر الفرق الفنية في الغناء، والرقص والمسرح، وفرق خاصة بالمرأة والطفل، وإقامة المهرجانات النوعية، ومنها مهرجانات المسرح ومهرجان أدب وفن المرأة، ومهرجان الطفل وغيره، وكانت لهذه المهرجانات الكلمة الفصل في التطوير والتعريف بثقافات المنطقة.
تأثيرٌ واضحٌ
كما كان للمسابقات والمهرجانات الثقافية والأدبية تأثيرها الواضح في الحياة الثقافية، وبعد أن أصبح عدد من هذه المهرجانات تقليداً سنوياً، وتظاهرة فنية وثقافية، ومن أهمها مهرجان أدب وفن المرأة، ومهرجان الطفل، ومهرجان أوصمان صبري للأدب، وفي المهرجان الأخير بنسخته الخامسة لهذا العام، وتأجلت المهرجانات لأكثر من مرة، بعد أن فرضت جائحة كورونا نفسها وبقوة، وألغت العديد من الأنشطة، وكمبادرة للتجديد والتخصص، فقد أعلن المهرجان عن مسابقته في القصة القصيرة فقط، وفي مجال الأدب الثوري، وباللغتين العربية والكردية، وبسبب أجواء الحظر العامة كانت المشاركة محدودة، إذ اقتصر عدد المشاركين في القسم العربي على خمسة عشر مشاركاً، وتم قبول تسعة مشاركين فقط، بينما قُبلت مشاركة واحدة فقط باللغة الكردية، وكانت هيئة الثقافة في إقليم الجزيرة، قد أعلنت عن المسابقة قبل أشهرٍ عدة، وشاركها في رعاية المهرجان ديوان الأدب في شمال وشرق سوريا، والذي تم الإعلان عن تأسيسه مؤخراً.
كذلك كان اللافت لهذا العام زخم الفعاليات الثقافية، التي قام بها اتحاد المثقفين في إقليم الجزيرة، والذي افتتح مكاتب له في عموم مناطق وبلدات الجزيرة، وكانت الأيام الثقافية الأسبوعية خطوة هامة، كنشاط ثقافي أسبوعي خصص له يوم معين من الأسبوع، لتقدم فيه فعالية ثقافية أو فنية، كتوقيع الكتب والمحاضرات المتنوعة، ومعارض للفن التشكيلي وندوات حوارية، وافتتاح حديقة للقراءة في الحسكة، على غرار حديقة القراءة في قامشلو، والتي شهدت بدورها عشرات الندوات والمحاضرات، والأنشطة الثقافية، وحفلات توقيع كتب عديدة كان آخرها لهذا العام توقيع ثلاثة كتب لكل من الكتاب “صبحي أحمد، وعبد الرحمن محمد، وكرديار دريعي” في 22/12/2021 ضمن نشاطات الأربعاء الثقافي، التي دأب مكتب اتحاد المثقفين في قامشلو على إقامتها في حديقة القراءة.
فعاليّاتٌ ونشاطاتٌ مميّزةٌ
نشاطات وفعاليات مميزة أخرى كانت حاضرة بقوة هذا العام، من بينها فعاليات اتحاد مثقفي روج آفاي كردستان، الذي يتخذ من قامشلو مقراً له، وقد نظم الاتحاد في قامشلو، وبعض مكاتبه الأخرى عشرات المحاضرات، والندوات الحوارية، وحفلات توقيع كتب متعددة، كما أقام الاتحاد ورشة عمل للفن التشكيلي، استمرت لأسبوع، شارك فيها عدد من الفنانين التشكيليين من الداخل والخارج، التقى خلالها الفنانون وتبادلوا الآراء والخبرات، وكانت فرصة لتبادل الآراء لمدارس تشكيلية متنوعة، وبحضور لافت لمحبي ومتذوقي الفن، كما منح الاتحاد جائزة الإبداع، لهذا العام مناصفة لكل من الكاتب والباحث الكردي، صالح حيدو والكاتب والباحث الكردي كوني رش، وهي جائزة نقدية قيمتها ألف دولار أمريكي. ومنحت الجائزة للكاتبين في حفل خاص، وبحضور إعلامي أقيمت الحفلة في مقر الاتحاد بقامشلو، وكانت ختام فعاليات توقيع الكتب في مقر الاتحاد يوم السبت 25/12/2021م بتوقيع ستة كتب باللغتين الكردية والعربية.
كذلك كانت هناك العديد من الفعاليات الثقافية والفنية، التي جاءت على شكل حفلات فنية وسهرات فن عامة، وفي مناسبات وطنية ورسمية، ومناسبات خاصة، كحفلات التأبين لعدد من الشخصيات، والقامات الاجتماعية، والثقافية، والتي رعتها مؤسسات ثقافية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
