لطالما ارتبط مفهوم الثورة تاريخياً بالدم، والعنف، والقائد الرجل فيها وسيلة لتغيير الأوضاع، والسلطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وحسب تعريف الثورة، فهي التغييرات الجذرية في البنى المؤسسية للمجتمع، تلك التغييرات التي تعمل على تبديل المجتمع ظاهرياً وجوهرياً من نمط سائد إلى نمط جديد، يتوافق مع مبادئ، وقيم، وأيديولوجيا وأهداف جديدة.
وربما تكون الثورة عنيفة، ودموية كما قد تكون سلمية، وحسب وصف العالم السياسي الألماني الأميركي هاري إيكشتاين هي: “محاولات التغيير بالعنف، أو التهديد باستخدامه ضد سياسات في الحكم، أو ضد حكام، أو ضد منظمة”، من هنا فإنه من غير المنطقي ربط العنف، والدموية بالمرأة.
وعلى رغم التغيرات، التي طرأت على المجتمعات تاريخياً ما زالت فكرة “الثورة” جاذبة لكل من يريد التغيير، إن كان على الصعيد الشخصي أو العام، أو على صعيد قيود اجتماعية نمطية، أو سياسية وثقافية.
لكن أين المرأة؟
يظن بعض الناس أن مشاركة النساء في الثورات حديثة العهد، ومن الممكن أن تكون صورة المرأة، التي انطبعت في ذهن الجيل الجديد هي المرأة، التي نزلت إلى الساحات خلال ما عرف بـ”الربيع العربي”، والصورة حديثة فعلاً وكانت لها تأثيراتها الكبيرة، التي ما زالت تتفاعل حتى اليوم، كما كانت دلالة على أن المجتمعات العربية تتجه نحو التغيير، خاصة أن تلك المرأة نزلت مطالبة بإطاحة الأنظمة القمعية، التي ظلت لعقود طويلة على رأس السلطة، طبعاً حسب البلاد التي شهدت ثورات “الربيع العربي”، وكانت مشاهد النساء صادمة، بخاصة في المجتمعات، التي كانت، ولا تزال تعدّ محافظة، وهذا ما أربك السلطات وحتى النخب الثقافية والسياسية، التي لم تكن تتوقع احتجاج النساء لاعتبارات دينية وجندرية وعنصرية في بعض الأحيان، لكن تلك الاحتجاجات كشفت عن الدور الفاعل الذي يمكن للمرأة ممارسته في المجتمعات من تغيير، وعمل سياسي وإصلاحي.
هذا لا يعني أن المرأة في الشرق الأوسط حديثة العهد بالتعبير، والاحتجاج والثورة، إذ سبقتها ملكة مصر كليوباترا الثانية التي قادت تمرداً ضد بطليموس الثامن، وطردته مع كليوباترا الثالثة خارج مصر، وكان ذلك عام 131 قبل الميلاد، وأيضاً قادت زنوبيا ملكة تدمر ثورة ضد الإمبراطورية الرومانية، وسيطرت قواتها على مصر الرومانية، وأجزاء من آسيا الصغرى، وكان ذلك عام 270 ميلادية، وفي أوروبا القديمة عام 280 قبل الميلاد قامت أميرة أسبرطة تشيليدونيس بإمداد المحاربين بالمؤن أثناء حصار المدينة، وكانت تضع حبل المشنقة حول عنقها لتظهر لزوجها كليونيموس، أنها لن تؤخذ وهي على قيد الحياة.
هذه الأسماء عينة صغيرة لنساء كثيرات كن رمزاً وقدوة في مجتمعاتهن، ودافعاً للتغلب على العدو، وتحقيق النصر، ولا يقتصر الأمر على ما يعرف الآن بالمجتمعات المتقدمة والحديثة، بل المفاجئ أن نساء كثيرات من مجتمعات تعرف بأنها نامية كن قائدات ومحاربات، كبوليفيا، وكولومبيا، وتشيلي، وجامايكا، والصين، والهند، وقد تكون غريزة الأمومة هي التي تحرك النساء للنضال والمقاومة، والحفاظ على العائلة والمجتمع من الاستبداد والطغيان.
نساء أطحن القيصر
في التاريخ الحديث شاركت المرأة البريطانية بفاعلية هائلة في الثورة الإنجليزية، التي اندلعت منتصف القرن السابع عشر، وشاركت المرأة الفرنسية في أول ثورة عمالية بمدينة باريس عام 1871، ولعبت دوراً مهماً للغاية في الانتفاضة، التي أدت في نهاية المطاف إلى ظهور كومونة باريس “Paris Commune” أو الثورة الفرنسية الرابعة، التي تمخضت عن أول دولة عمالية في التاريخ على رغم أنها لم تستمر سوى 72 يوماً فقط.
وخلال عام 1789 حين ارتفع سعر الخبز بنسبة 88 في المائة في فرنسا، نظمت نساء الأسواق الشعبية في باريس موجة التمرد الثانية من الثورة الفرنسية، تلك الثورة، التي قضت على عرش أوروبا الإقطاعية، وأسهمت في ظهور المجتمع الحديث.
انطلقت يوم الخامس من تشرين الأول 1789 أكثر من 7000 امرأة نحو قصر فرساي، من أجل إجبار العائلة المالكة على مواجهة الثوار، وحاصرت الحشود القصر، وانتهت الواقعة بمواجهة عنيفة أجبرت الملك والعائلة المالكة على الانتقال من القصر إلى باريس في اليوم التالي مباشرة.
وتروي النساء الإسبانيات ذكرياتهن عن ثورة العمال بين عامي 1936 و1937 بالقول: “كنا نتدرب مع ميليشيات من الذكور، ونقاتل إلى جوارهم على الخطوط الأمامية لمواجهة الفاشيين، كما كنا ننام في مخيمات محاطة بالرجال وعلى رغم هذا لم نشهد قط محاولات للتحرش الجنسي”.
قوة النساء
وكتب أحد مؤرخي ثورة 1917 الروسية: “تساءل أحد الجنود ذات مرة عن إمكان ضرب الزوجات الآن بعد الثورة، ورأى الرجال كيف أن نساء الأحياء، اللاتي كن يقفن إلى جوارهم في طوابير الخبز هن أنفسهن من نفذن بأيديهن حكم الإعدام فيمن كانت تثبت خيانته للثورة، وكانت الإجابة عن تساؤل الجندي حاسمة، وقاطعة بأن الطرق القديمة في معاملة المرأة لم تعد مقبولة، ولا يمكن السكوت عنها بعد الآن”.
تقول ساندرا بلودوورث الناشطة الأسترالية: “أثناء الثورات يتعلم الرجل أن يظهر مزيداً من الاحترام للمرأة، ليس هذا فحسب بل تصبح المرأة أيضاً أكثر قدرة على التصدي لأي سلوك سيئ من قبل الرجال”، ومن أكثر المشاهد إلهاماً في الثورة الروسية عام 1917 صور النساء اللاتي بدأن الثورة في شباط بمدينة بتروغراد، واللاتي لعب حشدهن للعمال وتحريضهن لهم على الإضراب في ذكرى اليوم العالمي للمرأة دوراً فاصلاً في توجيه الكتلة العمالية نحو بدء النضال.
في الثامن من آذار 1917 في سانت بطرسبورغ بدأت العاملات في مصانع النسيج تظاهرة اجتاحت المدينة بأكملها، وطالبن فيها بـ”الخبز والسلام” أي إنهاء الحرب العالمية الأولى، وحل مشكلة نقص الغذاء ونهاية القيصرية.
كانت هذه التظاهرة بمثابة بداية لثورة شباط، التي شكلت إلى جانب الثورة البلشفية ما عرف بالثورة الروسية الثانية، وأشاد ليون تروتسكي أحد قادة الثورة بدور المرأة في كتابه “تاريخ الثورة الروسية”، إذ كتب: “كانت المرأة هي الأشجع والأشد عزماً فيما يتعلق بحث الجنود على التمرد، وعلى رفض أوامر قادتهم، ودعوتهم إلى ترك الخدمة العسكرية والانضمام إلى صفوف الثوار، وكانت قدرة المرأة على كسب الجنود حاسمة في إطاحة القيصر، الذي كان يعد واحداً من أشد الطغاة وحشية في أوروبا بأسرها”.