آزاد كردي
لا شك أنه ليس هناك امرأة أُثير حولها الكثير من الأقاصيص والغرائب مثل شخصية ثيودورا، التي كانت الضحية الأكبر تعرضاً لتناقض روايات المؤرخين عنها، ففي حين نجد أن هناك من أنصفها وأعطاها حقها في المقابل هناك من بالغ في ذلك أيضاً.
وبهذا الصدد، التقت صحيفتنا “روناهي” بالخبير الأثري؛ عبد الوهاب شيخو الذي حدثنا عن نشأتها الأولى، وزواجها من جستينيان، وسيرتها في الإمبراطورية، ومآثرها.
النشأة الأولى للإمبراطورة ثيودورا
وأشار الخبير الأثري عبد الوهاب شيخو عن نشأتها الأولى، أن من أرّخ لهذه المادة المنبجية الأصل؛ اثنان، هما: يوحنا الأفسوسي الآمدي – ٥٠٧- ٥٨٦ ميلادية وبروكو بيوس من قيصرية فلسطين ٤٩٠ وكلاهما معاصر لثيودورا، وكل من تناولها من بعدها استند في روايته إلى أحديهما، ولكن ما يثير الشكوك في روايات بروكوبيوس، كيف أنه بدأ في حديثه عن ثيودورا! وزوجها جوستنيان محابياً وأجلّهما فوق الحد في مجموعته المعروفة “الأنيكدوتا” أو ما يعرف “التاريخ السري”، وكيف تحولت محاباته إلى نقمة عليهما في نهاية المجموعة ذاتها، ولكن جاء من يحقق في مصداقية أقوال بروكوبيوس فيما بعد من أمثال المؤرخ الفرنسي المتأخرM. Antnonin Dibitor الذي خلص في كتابه “ثيودورا دراسة نقدية للإمبراطورية”، المنشور في باريس عام ١٨٨٥م إلى تنزيهها من تلفيقات بروكوبيوس.
وأضاف شيخو قائلاً: “إن المعلومات ضئيلة جداً بل ومتناقضة حول مولدها ونشأتها الأولى، فقد ورد في الصفحة ١٩2 من تاريخ الراهب القرتميني بالسريانية، طبعة لوفان، عام 1953م: لقد ولدت ثيودورا في مدينة منبج؛ الواقعة بين حلب والرها في مطلع القرن السادس ووالدها قسيس سوري أرثوذكسي، رباها تربية صالحة على المبادئ القويمة. كما جاء في تاريخ الرهاوي المجهول، المجلد الأول، الصفحة 192-191 “أن ثيودورا كانت فتاة رائعة الجمال زينها الله بمحاسن الجسم والنفس”، غير أن بروكوبيوس شوّه مولدها ونشأتها في مجموعة “الأنيكدوتا” بأن جعلها ابنة لمروض الدببة في سيرك “الهيبو ذروم”، بالقسطنطينية وأنها أصبحت ممثلة في صباها إلى ما هناك من أحاديث لا يقبلها منطق سليم؛ لأن المعلومات التي أوردها تتعارض جوهرياً مع ما سنراه من مآثر للإمبراطورية العظيمة لاحقاً.
الارتقاء إلى القمة بزواجها من الإمبراطور
وأوضح أن زواجها من الإمبراطور جستينيان، كان في عام 527-565م وقد ورد ذكر ذلك في الصفحة 78 من كتاب “تاريخ الزمان”؛ لمارغريغورريوس يوحنا أبي الفرج الملقب بابن العبري 1226-1286م ونورد منه ما يلي: “مر جستينيان بمنبج، وهو في طريقه لمحاربة الفرس، فبهرته أخبار جمال ثيودورا وفضائلها وذكائها، فقرر الزواج منها. ويتابع ابن العبري، وهكذا تم الزواج الملكي فعقد لـ ثيوذورا التاج وأصبحت قيصرة بيزنطة إلى جانب زوجها القيصر جستينيان”.
سيرتها الحسنة في الإمبراطورية
وأكد شيخو في حديثه عن سيرتها في الإمبراطورية أن المؤخرين أجمعوا أن ثيودورا لم تكن زوجة للإمبراطور وحسب، بل كانت إمبراطورة مارست صلاحيات مطلقة وأعانت زوجها وأرشدته إلى القرارات العظمى. وتذكر الموسوعة البريطانية أن اسمها كان مثبتاً على كافة القوانين التي تم إقرارها في فترة حكمها، وأنها كانت تستقبل الموفدين الأجانب والسفراء وتراسل الحكام الأجانب وهذا عادة ما يكون من صلاحيات الإمبراطور نفسه.
وتابع أن الموسوعة البريطانية نفسها أيضاً تشير إلى أن تأثيرها على الحياة السياسية كان حاسماً كما يتضح في ثورة Nike أي: “النصر في اليونانية” التي وقعت في كانون الثاني من عام 532م حيث تحالف الزرق والخضر، وهم الخصوم السياسيون في القسطنطينية ليقوموا ضد الإمبراطور جستينيان؛ بهدف إسقاطه وإقامة بديل عنه. ويتابع المصدر نفسه: “أن مستشاري جستينيان نصحوه بالهرب ولكن ثيودروا نصحته بالصمود وإنقاذ الإمبراطورية، ووقد أسندت إلى بيليزاريوس إخماد الثورة، فقام هذا الأخير باستدراجهم إلى داخل السيرك الملاصق للقصر الملكي وفتك بهم جميعاً. ومعلوم أن جستينيان كاد ينهار لولا وقفة زوجته ثيودورا التي تولت بنفسها قيادة الجيش وإصدار الأوامر إلى قادتها العسكريين إلى حين تم إخماد هذه الثورة”.
مآثر جلية محفورة في تاريخ العظيمات
ونوه شيخو حول مآثرها: “إن ما نقله المؤرخون لنا عن مآثرها بما في ذلك ما أورده خصمها بروكوبيس في “الأنيكدوتا” يصورها امرأة شديدة الفضيلة، عالية القدر من الذكاء، والفطنة، والمقدرة، والجمال. كانت ثيودروا شديدة الحرص على الأخلاق في العاصمة وخارجها، فحاربت الرذيلة وأهلكت العابثين بالأخلاق، وشجبت أعمالهم وأبادت خمسمئة منهم كانوا يعيثون فساداً في قلب العاصمة، فأنقذت الجيل من شرورهم إنقاذاً كاملاً. كما أنها كانت تعاقب الزوجات الخائنات لأزواجهن وتعاقب الأزواج الذين لا يحسنون معاملة زوجاتهن، فتصدر الأوامر الشديدة بعودتهم إلى خدمة البيت والأولاد. ويسجل التاريخ مأثرة لم يسبقها إليها أحد من قبل، أنها أول الحكام الذين اعترفوا بحقوق المرأة بإصدارها قوانين صارمة لمنع الاتجار بالفتيات وتغيير قوانين الطلاق لتصبح في صالح النساء، ومن أعمالها أيضاً أنها حولت مقر كلية الحقوق في بيروت ونقلته إلى القسطنطينية العاصمة. ويذكر أن كلية الحقوق في بيروت كانت قد أسستها “جوليا دومنا” قبل زمن ثيودورا بقرنين وثلث قرن، وبقيت مقربة منها.
وأردف أن أبرز ما تمخضت عنه هذه الخطوة، هو صدور مجموعات جستينيان التشريعية الأربع التي تم توحيدها كلها في المأثرة التاريخية القانونية المعروفة جيداً اليوم باسم “منظومة التشريع المدني”؛ حسب التفصيل الآتي: “انتقت ثيودورا للقيام بهذا العمل القانوني الضخم مجموعة من أعظم فقهاء العصر، وكونت منهم لجنة من عشرة أشخاص، أشهرهم: تريبيانوس وثيوفيلوس، وكان منهم أيضاً أساتذة الحقوق في بيروت وهم: أناطوليوس، طاليلاوس، سطيفانوس، يوليانوس، ذروثيوس، إفذوكسيوس. وانتهت إلى إصدار مجموعة جستينيان القانونية في السادس عشر من نيسان عام 529م، وفي عام 533م خرجت اللجنة بعمل آخر هو “المختارات الجامعة” كما أصدرت مجموعة تعليمية بعنوان “المبادئ والإرشادات القانونية”، وأخيراً مجموعة “الدساتير الجديدة” اللاحقة، وقد وحدت هذه المجموعات الأربع تحت اسم “منظومة التشريع المدني”.
جدل حول وفاة الإمبراطورة
واختتم الخبير الأثري عبد الوهاب شيخو حديثه بالقول: “بالطبع، تختتم الموسوعة البريطانية حديثها عن ثيودروا بما حرفيته: “شكلت وفاة ثيودروا عام 548م وربما بسبب السرطان أو الغرغرينا صدمة قاسية لجستينيان، وقد ظهرت أهميتها في الحياة البيزنطية في تحقيق أن النزر اليسير فقط من التشريعات، يرجع إلى الفترة ما بين وفاته وبين وفاة زوجها جستينيان عام 565م أي أن الأعمال الجليلة كلها تمت في حياتها”.
