الإعلام والشعوب (2)

صلاح الدين مسلم_

لا شكّ أنّ دفاع الشعب الأوكرانيّ عن نفسه هو دفاع مشروع، لكن لِمَ قامت هذه الحرب؟ ومن هو المسبّب؟ وهل كان بإمكان القيادة الأوكرانيّة منع هذه الحرب؟ فهذا الأسئلة وأسئلة أخرى لا تُطرح على الإعلام الممنهج.

إنّ كلّ هذا التهريج الإعلاميّ هو تمييع للثورات، كما ميّع الإعلام الثورات السابقة، فترى على الإعلام المنتخبَ الأوكرانيَّ وهو في أبهى حلّته مرتديّاً الزيّ العسكريّ، وترى فتاةً بيدها كلبٌ وهي تجتاز الحدود مبتسمة، وممثّلةً فاتنةً مرتديةً اللباسَ العسكريّ كأنّها في نزهة، والكلّ يضع بروفايل لملكة جمال أوكرانية، وهي مرتدية الزي العسكريّ في دعاية للحرب، وللدفاع المشروع، بينما يخجل معظمنا من وضع صورة شهدائه على بروفايلاته.

إنّه الاغتراب الشرقيّ تجاه الحضارة الغربيّة، فالشرقي الضعيف، يرى أنّه لا يمتلك شيئاً مشرّفاً، ويريد أن ينسلخ عن هذه الحضارة الديمقراطيّة التاريخيّة في المجتمع الزراعيّ الشرقيّ، ليلبس لبوس الغرب الرأسماليّ البعيد عن الحضارة، وكلّ ذلك يحدث تحت سطوة الإعلام.

باتت هذه القنوات الإعلاميّة تعزف سيمفونيّة متجانسة، ومكرّرة، منذ اندلاع الثورات في الشرق عبر بوّابة تونس، وتشجّع على المقاومة حتّى تفنى الدولة عن بكرة أبيها، دون أن تضع حلولاً نهائيّة، فعلى سبيل المثال الحلّ موجود عند الولايات المتّحدة، فرئيسها كان قادراً على إنهاء هذه الحرب بجملة واحدة وهي (لن نقبل أوكرانيا في حلف الناتو) لكنّه لا ينهي هذه الحرب، وبالمقابل لم يقبل الناتو أوكرانيا في حلف الناتو.

في بحث أو مقال يجب على الكاتب من خلال سطوة الإعلام، أنّ يبدي رأيه في هذه الحرب الروسيّة ـ الأوكرانيا، مع أو ضدّ، فهناك إجبار أمريكيّ إعلاميّ للعالم على أن يكون مع أو ضدّ (ومن ليس معنا فهو ضدّنا) من خلال هذا الإرهاب الإعلاميّ.

لدرجة أنّ الرئيس التركيّ لم يستطع أن يظلّ على سياسته (سياسة مسك العصا من المنتصف) فلم يكن له حلّ سوى أن يختار موقفاً، وقد اختاره مرغماً بعد مكالمة هاتفيّة أميركيّة.

تبدأ الشعوب المتحرّرة من نير الإمبراطوريات من الخوف على مصيرها، إثر تجدّد مفاهيم الحروب الإمبراطوريّة والحربين العالميتين الأولى والثانيّة، في هذه الحرب الروسيّة على أوكرانيا، فهذا القانون الدولي الذي يعتمد على ازدواجيّة المعايير بات وبالاً على الشعوب، والأمم المتّحدة التي تحكمها خمس دول متناقضة في العالم، فعلى سبيل المثال كيف سيتبنّى مجلس الأمن قراراً ضدّ روسيا وروسيا تمتلك حقّ الفيتو؟

لا تحبّ الشعوبُ الحربَ، لكنّ الدول تعيش على الحرب، وعندما تروّج الدول، التي تمتلك ترسانات السلاح لفكرة نزعه، فهي تغري الدول القريبة من الديمقراطيّة لنزع السلاح، ليسهُل القضاء عليها في النهاية، وعندما تختلق حرباً ما، فهي تجبر الدولة المحاربة على بيعها الأسلحة، وبالتالي تبدأ صفقات الأسلحة، وكلّ ذلك عبر زيف الإعلام السلطوي.

ينسى الناس تاريخ الحروب في استقرار بسيط، وكأنّ التّاريخ كلَّه سلام، لكنّ عندما تقلّب صفحات أيّةِ بقعة في هذا الكون ترى الدمار والويلات، وحدوداً صُنعت بالدماء، وإمبراطوريّات شيدت بالجماجم، ومدناً شيدت بالعبيد، ودائماً يحاول الإعلام السلطويّ أن يُنسي المجتمعات تاريخها.