جل آغا/ غزال العمر ـ
“اللحم لكم والعظم لنا” مثل شعبي يتداوله الأهالي فيه رخصة مبررة للعنف ضد الأطفال، الذي يُعد بأنواعه وأسبابه داء مُستشرٍ وظاهرة ليست بالغريبة في المجتمع بحق الأطفال والطفولة، لكنّه مستهجن وغير محبب لما له من انعكاساتٍ نفسية وخيمة على شخصية الطفل في المستقبل.
“أبي يضربني”
(ق.ن) اسم مستعار لطفلٍ من أهالي بلدة جل آغا (15عاماً) تبدو الكدمات وآثار الضرب الحمراء والزرقاء واضحةً على وجهه وبالكاد يفتح عينيه يقول: “أبي رجلٌ عصبي وأيّ خلاف مع أمي يبدأ بضربنا جميعاً”، بهذه العبارة بدأ الطفل المعنّف ببث شكواه عبر منبر صحيفتنا “روناهي”.
يجبره والده على العمل وترك المدرسة متذرعاً بصعوبة المعيشة: “اليوم الذي لا أذهب فيه للعمل أخرج من البيت، ينهال أبي ضرباً عند عدم تأميني مبلغاً مالياً كلّ شهر”.
وعن تأثير ممارسة العنف بحقه يتحدث الطفل: “أخجل أحياناً من الظهور أمام رفاقي أو الذهاب إليهم وأنا بهذا المظهر، فمنهم من يواسيني ومنهم من يتنمر مما يثير انفعالي”، يشعر (ق.ن) بالغيرة من أقرانه عندما يراهم مع آبائهم يضحكون ويمزحون.
وسائل التعنيف
وعن نوع العنف المستخدم بحقه من قبل والده حدثنا: “الضرب بالعصا وباليدين والحبس بغرفة منفردة وحرمان من الطعام واللعب مع رفاقي”.
وتؤكد والدة الطفل التي رفضت التصريح عن اسمها لأسباب شخصية من أهالي ناحية جل آغا (35 عاماً) والدة ثلاثة أطفال، بأنّ أولادها تأثروا نفسياً جراء المعاملة السيئة التي تتلقاها من زوجها، وأشارت إلى أنه وصل الطريق بها مع زوجها إلى نهايته: “أجد بالطلاق حلاً سليماً لسلامة أطفالي النفسية، حياتهم في جوٍ مشحون بالعنف النفسي والجسدي صعبة على صغار بعمرهم”.
تحذيرات نفسيّة
يتحدث الاستشاري النفسي صباح عبد الرحمن الإداري في مركز هيفي للاستشارات النفسية من أهالي بلدة كركي لكي في شمال وشرق سوريا لصحيفتنا “روناهي”، عن البيئة الحاضنة للطفل وتأثير التربية ومعاملة الوالدين بين بعضهما على شخصية طفلهم: “المنزل المكان الأول الذي تتكون فيه شخصية الطفل وتتبلور معالمها وتتحدد اتجاهاتها من خلاله”.
وتابع الاستشاري متحدثاً عن دور ذلك بشخصية الطفل: “لعلاقة الأبوين دور مهم في حياة ابنهم، وخاصة إذا كان هناك عنف بالتعامل، ليس مشروطاً أن يكون عنفٌ جسدي بل ربما يكون للعنف النفسي تأثير أعمق ويظهر بوضوح على بنية الطفل النفسية وصحتها”.
وأشار إلى أنّ بعض الأطفال تُضرب أمهاتهم أمامهم مما يجعلهم منزويين وعدوانيين ويحاولون تقليد آبائهم بذلك مع رفاقهم، وهذا تعنيف غير مباشر للطفل، لكن أضراره كبيرة ومنهم من يتعرض للضرب المبرح المباشر نتيجة عصبية أحد الأبوين اللذين يلجأن غالباً لضرب أطفالهم تفريغاً للعصبية وللطاقة السلبية.
وأضاف الاستشاري النفسي: “يظنون بأنّهم يربون أبنائهم ويرشدوهم لطريق الصح والخطأ بالعصا ولكن هذا سيء للغاية”.
“شخص شاذ اجتماعياً”
مجرد استخدام العصا أو التهديد بها من قبل الأهل يجعل من الطفل شخصاً عدواني يمارس العنف على المحيط الذي يتعايش معه، مقلداً الصورة التي يُعامل بها للخارج، وتصدير المشكلة للخارج أمر خطير يجعل منه شخصاً غير محبب بذنب غيره أو انطوائي انعزالي يهاب كلّ من يقترب منه، فنرى بعض الأطفال يغطون وجوههم أو يبتعدون، وغالباً الطفل الانطوائي يعاني من التبول اللاإرادي ولجلجة في الكلام وتلعثم.
التعلّق بالأم
فيما إذا استمر استخدام العنف معه سواء لشخص الطفل بشكل جسدي مباشر أو تعنيف نفسي غير مباشر من خلال صراخ الأبوين ومشاكلهم التي تحدث أمامه: “هنا الطفل سيشعر بعدم الأمان لما لذلك من انعكاسات على شخصيته سيعيش بحالة خوف تصل به للبكاء ليلاً ورؤية الأحلام المزعجة، يعيش برعبٍ خوفاً من فقدان أمه، فينشأ ناقماً على أبيه عدواني الطبع”.
وقال عبد الرحمن: “هذا الأمر أيضاً يزيد الطين بلة، فأغلب الأطفال ميالين لأمهاتهم مما يثير غضب بعض الآباء الذين يستخدمون العنف انتقاماً من أطفالهم، متجاهلين بأنّ الطفل يميل للأمان والطمأنينة، وهنا الطامة الكبرى الآباء لا يسألون أنفسهم عن السبب والحل الجذري، وهو إخفاء الخلافات الأسرية أمام الطفل وحلها”.
وفيما إذا كان انفصال الأبوين حلاً مناسباً اختتم الاستشاري النفسي صباح عبد الرحمن: “غياب الرقابة المشتركة للأبوين تتسبب بانحراف الطفل، هذا هروب من المشكلة وليس حلاً جذرياً لها”.
العنف المدرسي
وللعنف المدرسي أضراراً جمة ربما تعتبر أكثر ضرراً من العنف المنزلي على الطفل، فالعنف المدرسي على الملأ يثير الخجل والتنمر من قبل المعلم والتلاميذ.
يقول الرئيس المشترك للجنة المدارس في جل آغا هاني المحمد بأنّه وضمن القانون الداخلي لمدارس الإدارة الذاتية يمنع الضرب بالمطلق: “تحت أيّ سبب ولأي سببٍ كان الضرب ممنوع، لكن الأمر نسبي التنفيذ من قبل المعلمين والمعلمات، نحن لا نستطيع مراقبة الجميع بصفوفهم وكيفية التعامل مع طلابهم”.
في حال ورود أي شكوى من الأهالي يتم متابعة الموضوع والتحقق منه، في حال ظهرت أي دلائل تتخذ الإجراءات القانونية اللازمة بحق المعلم، ويُفصل ويتوقف عن العمل”.
البحث عن الأسباب
وتابع المحمد: “نحن نسعى للإلمام ومعالجة أسباب التأخر الدراسي عند بعض الطلاب كي نتدارك المشكلة ونضع الحلول”.
ويذكر المحمد بأنّه كان معلماً قبل أنّ يترقى بمنصبه الوظيفي: “كان لدي طالبة تبكي بشدة عند عدم أخذها العلامة الكاملة، وعندما بحثت عن السبب وجدت بأنّ هذه الطفلة تتعرض للضرب بشدة من والدتها في حال أيّ ملاحظة مدرسية عليّها، مما جعل الطفلة بحالة خوف، ابتعدت عن العقوبة أيّا كان شكلها، مع هذه الطفلة في حين بإمكان المعلمين حرمان الطلاب من أشياء يحبونها كحصة الرياضة والرسم، فهم ينتظرون هذه الحصص بفارغ الصبر وحرمانهم منها يحفزهم للاجتهاد”.
وأشار الرئيس المشترك للجنة المدارس في جل آغا هاني المحمد إلى أنه في لجنة مدارس جل آغا يوجد طلاب مهجرين رأوا من العنف والفقد والحرمان مما أوصلهم لأعلى درجات الألم والحرمان: “لذا ننبه دائماً المعلمين أخذ هذا الأمر بالحسبان”.
أرقام مُرعبة
هذا وبحسب التقرير العالمي لحقوق الطفل (منظمة اليونسيف) لعام 2020 م بأنه يتأثر نصف أطفال العالم أو ما يقارب مليار طفل سنوياً للعنف النفسي والجسدي والجنسي، ويعاني هذا الجيل من الإصابات والإعاقات والوفاة، والدول فشلت باتباع استراتيجياتها الموضوعة أصلاً لحمايتهم.
أصوات أطفال تكبر أوجاعهم معهم نتمنى أن تصل لمسامع المنظمات والحقوقيون والجهات المعنية التي تنادي بحرية الأطفال وحقوقهم لعلها تتلاشى وتندثر.
