أعداء الإبداع وسماسرة الثقافة

حسن مستعد_

ظاهرة دكاكين النشر بدأت تكتسح جُلَّ المواقع في منافسة شرسة، لاستقطاب أكبر عدد ممكن من ضحايا التوهيم بأنهم كتاب وشعراء.

هناك من يملأ كتابا جماعيا، يحوي أكثر من ثمانين نصا، وينشره ويعرضه في السوق ولا يتقاضى من اسهمه ما يزيد في الرصيد البنكي، أو رصيد ناشر المطبوع ولو سنتيما واحدا، والكل يبارك للكل، والكل فرح ببلوغه سدرة الإبداع؛ دون أن يطرح سؤالا عريضا طويلا، هل بالفعل يستحق هذه البهرجة وهذه الهجرة الجماعية كمن يمتطي قوارب الموت.

نعم إنها مطبوعات الموت والقتل الثقافي وإفراز عينة ممن أصبحت مناخيرهم تقارب السحاب، نتيجة تسرب غاز الوهم والتمويه والضحك على الأدب، هم “أنابيب: فقط لتمرير ما يراد تمريره.

الكل يجري لاهثا دون التفات، ولو دفع من ماله الخاص، لنشر شيء كيفما اتفق، إلا أن يكون إبداعا أو جنسا أدبيا تتوفر فيه مقومات وعناصر هذا الجنس، من أجل التباهي أمام المقربين والأصدقاء بأنهم أصبحوا ذا شأن يشار إليهم بالبنان، ومن اختلاط شتى أنواع النتاجات ينتج كوكتيل غريب وشخص غريب وكاتب غريب.

الإصدار لا يصنع كاتبا أو شاعرا، هذه الصفة التي سطا عليها الكل وقرصنها لنفسه، وأصبحت عنوانا لمن لا عنوان له. أحيانا أشير بصفة كاتب أو شاعر مجازا وللتشجيع فقط ويظنها البعض أنها شهادة صادرة من كاتب متواضع يظن نفسه أنه يفقه في الأدب.

كم مرة ندمت أشد الندم لأنني خالفت ضميري بحسن نية للتشجيع فقط لوصف شخص ما بما لا يستحقه بعد فوات الأوان. وأعتذر لنفسي ولن أعيد الكرة مرة أخرى.

هناك سير ذاتية مليئة بعناوين ما صدر، ونصوص أصحابها لا ترى فيها إلا السطور السوداء تتخللها أخطاء كثيرة بيضاء كأنها سماء مكفهرة بالغيوم تنذر بطوفان الرداءة والركاكة، وغياب كل ما يجعلك تحس بأنك تقرأ لشخص سبقته إليك زوبعة من الإصدارات والجوائز والنياشين، والكؤوس ولم يتبق إلا سماع دقات طبول الحرب.

لحرب الطرقات ضحايا نتيجة السرعة وعدم الانتباه؛ ولحرب الناشرين الذين لا وازع أخلاقي يفرمل طمعهم المادي ضحايا التوهيم بأنهم وصلوا المبتغى.

كنا نحارب بعض المواقع التي تنشر حتى الغسيل إذا أرسلته لهم، همهم ملء الفراغ ليس إلا وليس إثراء وإعلاء للشأن الثقافي، ينشرون الشعر وما هو بشعر، ينشرون القصة، وما هي بقصة، مجرد ثرثرة فارغة لعجائز في حديقة عمومية.

كأن فيلاً يعيث في دكان الأدب خرابا، وها هي فيلة دكاكين النشر أغرمت بالفيل وستزيد علاقتهما عبثا واستهتارا وخرابا ودمارا، لما نناضل من أجله مع صفوة الأنقياء من الأدباء، الذين يملكون رصيدا من الأنفة والكبرياء والغيرة على المجال الأدبي والفكري والثقافي.

صيحتي ستذروها الرياح؛ لأنها آتية من واد سحيق، لكنها نصيحة مجانية صادرة من محب غيور للجميع.

أنظروا أولا في مرآة كتاباتكم هل أنتم مقتنعون بما تكتبون؟ هل ما نشر لكم يستحق النشر؟ هل راجعتم النص عشرات المرات واقتنصتم الأخطاء واستعنتم بالمنجد، أم فقط طبخة أولى دون نضج وها هي على طبق في إحدى المواقع، الشبه ثقافية تنتظر من يلتهمها على عجل؟ أعرف جوابك “وأنت مالك؟” أنا هنا من أجلك، كي تنطلق من أرضية صلبة، كي تبني مجدا أدبيا ينافس الصفوة وينقش أثره عبر الأجيال وليس مجرد فقاعة صابون سرعان ما تتلاشى عبر الهواء.

أريدك ألا تتسرع في النشر، لك (فعل لاك أي مضغ بصيغة الأمر) الكلمات عشرات المرات، حتى تصبح مطواعة للبلع، لا ترضى بأول مسودة لك، بل راجع، نقح، أعد أساليب الكتابة، أعصر دماغك كي تستخرج منه عصارة الخلق والابتكار، داخلك منجم، فحاول أن تبحث عن التبر وليس التراب. تريث قليلا أو كثيرا حتى تنضج الفكرة وتسقط مدرارة على الورق.

لا تغتر بلايكات الإعجاب ولا بردود الأصدقاء المجاملة، بل أطرق باب الأدباء حتى وإن عدت خائبا بملاحظاتهم، التي تظنها عقبة تشل طموحك، أعد الكرة مرة ومرات حتى تنتفي ملاحظاتهم وانتقاداتهم، لحظتها ستحس بأن الأوان آن، لترفرف في سماوات الإبداع.

أقرأ كثيرا واكتب قليلا، العبرة بالكيفية وليست بالكمية، هذا إذا كنت تسعى إلى تسلق الجبال بدل العيش بين الحفر.

ونحن لن نتوانى في محاربة الرداءة وسماسرة الأدب والدكاكين الثقافية، وإعادة قطار الإبداع الحقيقي والنقي بدون شوائب التمويه الملونة إلى سكته المتينة الغير صدئة ومهترئة.

فمن يا ترى سينضم لصفنا لتنقية وجه الثقافة ليخلو من كل بشاعة، ويعيد لها جمالها الخلاب والفاتن.