آغري/ أورفا موت وميلاد

مصطفى بالي_

(كفى، سيأتي يوم يكون فيه للسياسة معنى آخر) هكذا تكلم نيتشه وبشرنا، لكن بشراه أصبحت وبالاً علينا جميعاً، أصبحت نذير شؤم لكل الأفراد والشعوب التي فكرت مجرد تفكير أن تخرج رأسها من تحت خيمة السلطة وتحدق في الفضاء الفسيح.

إن تاريخ البشرية -المكتوب منه أو المحفوظ، المتداول منه أو المخفي، العقلاني منه أو المؤطر- هو تاريخ الصراع العميق والدموي بين الإنسان/ الإنسانية المتأملة في الفضاءات الفسيحة والآفاق الرحبة، وبين السلطات المؤلهة – المقنعة منها أو السافرة.

فهذا الإنسان المطرود من الفردوس أساساً، لأنه تجرأ على مخالفة الأوامر الإلهية وتناول من فاكهة شجرة المعرفة مدفوعاً بالفضول والغواية، هو ذاته بروميثيوس المشدود وثاقه بجبال القفقاس، عقاباً له على منحه جذوة النار للبشر، فالآلهة/ السلطة لا تتسامح لا مع بشر ولا مع آلهة فيما إذا فكرت أن تمنح المعرفة أو الجذوة للبشر-الفانين.

كل القصص، المراوي، الحكايا، التي تتحدث عن شخصيات عظيمة وأسطورية وتروي سيرتها، إنما هي تتحدث عن هذا الصراع المستمر بين نزعة الحرية المنثورة في حقول النفس البشرية، وبين سطوة الاستبداد المتمثلة كأنها الفأس في قبضة أنظمة السلب والنهب التي تتحكم بمصائر البشرية، لا فرق كبير بين دعوة أمنا الأولى التي أغوت أبانا الأول، بأن يكتسب المعرفة مهما كان ثمنها وعقابها، وبين كل الثوار والثائرات الذين/اللواتي سطر التاريخ قصصهم ومآسيهم، إنها ضريبة المعرفة واللاخنوع.

إذاً والحال هذه، فمسيرة الأشخاص هي مسيرة الشعوب، تلك الشعوب التي تحتفل بميلاد أبناءها العظماء إنما تحتفل بميلادها وانطلاقاتها -والكرد ليسوا استثناء- فالكرد الذين أعلن نظام الصهر والإبادة العالمي المتمثل بمخفرها المتقدم، تركيا، دفنهم رسمياً مع أحلامهم على سفوح جبل آغري، بعد القضاء على كل ثوراتهم وعصياناتهم الكلاسيكية الدامية، فجأة ولدوا من رماد قبرهم في الرابع من نيسان ومن المهد الذي ولد فيه إبراهيم الخليل وأعلن الثورة على النمرود/ النماردة وتحول إلى موئل وإلهام للبشرية.

هناك أيام مفصلية في تاريخ البشرية، تعتبر منعطفات كبرى، غيرت مسار التاريخ، هذه الأيام مشهودة لدى جميع شعوب البشرية، لا يمكن لأحد أو لأي قوة أن تطمس معالم تلك الأيام مهما امتلكت من قوة وجبروت، ذلك أن مضامين هذه الأيام هي ملك الشعوب المتمسكة بها وبمضامينها لا لمجرد كونها يوم ميلاد لفرد من أبنائها بقدر ما هو يوم ميلاد للشعب ذاته، ومهما بلغت وحشية الأنظمة والسلطات فإن الشعوب تتمسك بجذوة النار البروميثيوسية وفاكهة المعرفة الحوائية لتنفذ من جدار الظلام الكتيم إلى أفق النور والنار الفسيح.

يروي فوكوياما عن الروائي روبيرت وارين (نهاية الإنسان هي المعرفة، لكن شيئاً واحداً لا يمكنه أنه يعرفه، إنه لا يستطيع أن يعرف ما أذا كانت المعرفة ستنقذه أم ستقتله، سيقتل، لكنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كان قد قتل بسبب المعرفة التي اكتسبها أم بسبب المعرفة التي لم يكتسبها والتي كانت ستنقذه لو أنه عرفها) والحال هذه، وبما أننا محكومون بالقتل فسنواجه قاتلينا ونحن مسلحون بالمعرفة لا بالجهل.

هم دفنونا مع أحلامنا على سفوح آغري، ونحن وإلى أن تحين الساعة، كل رابع من نيسان، للموت الذي أرادوه أن يعيش فينا، سنزرع الأشجار -دائماً- لحياة جديدة.