آخر الكلام ـ مصطفى بالي

قافلة النور

من أجمل ما في التراث العربي هو أنهم تفننوا في الحكم والأمثال، نثراً وشعراً بحيث أنهم تركوا ميراثاً غنياً للأجيال لا ينضب، أودعوا فيه عصارة كل تجاربهم وخبرتهم، وأورثوا أجيالهم صرراً تُعينهم في نوائب الدهر، وتعينهم فيما إذا جار الزمان، وتنير لهم الآفاق إذا أظلمت الليالي، حقيقةً لقد حوّل العرب لغتهم إلى ميراث من الحكمة والنصيحة لأحفادهم يتكؤون عليها حينما توهن الأحداث عزمهم.

المحزن في هذا الأمر، هو أن العرب منذ قرون، يحملون على ظهورهم هذا الإرث الغني، لا يكلفون أنفسهم عناء فتح هذه الصرّة للانتهال منها والتبصر بها، تتناهشهم الذئاب مشرقاً ومغرباً، وهم لا حول ولا قوة، إلا التدثر بالآمال والتصبر بالأماني، تسوسهم أنظمة الفساد والرذيلة، تقولب حياتهم وأنماط تفكيرهم، وكأن جبران كان يُشرحهم بمبضعه حين قال:

(ويل لأمة تحسب المستبد بطلاً وترى الفاتح المذل رحيماً..

ويل لأمة لا ترفع صوتها إلا في جنازة ولا تفخر إلا بالخرائب، ولا تثور إلا وعنقها بين السيف والنطع..

ويل لأمة سائسها ثعلب وفيلسوفها مشعوذ)

(قافلة النور)، حلقة جديدة من مسلسل تركي طويل، جوهره الاستثمار في الدم السوري وامتصاصه حتى آخر قطرة، والاستفادة من كل التفاصيل سواء لجهة استخدام الشباب كمرتزقة لأطماع الثمانية الجديدة، أو لجهة استخدام ذوي هؤلاء الشباب الذين قضوا في المعارك الداخلية أو الخارجية كورقة ابتزاز للعالم تحت مسمى المهاجرين وأزمة المهاجرين، بعد أن انتهت صلاحية هؤلاء البائسين في لعبة الصراع الداخلي التركي.

ذات يوم كان الرئيس التركي يصفهم بأخوتنا المهاجرين ويستخدمهم كعصا غليظة لتهديد معارضة الداخل، بالرغم من حصوله على مليارات الدولارات في هذا الاستثمار، وبعد أن اكتنز هو وحاشيته من هذه التجارة القذرة، راح يستخدمهم كورقة تهديد وابتزاز ضد العالم هذه المرة.

مما لا شك فيه، أن البحث عن سبل أفضل للحياة، الأمان والاستقرار، هو حق طبيعي لأي شخص في العالم، ومن الطبيعي أن يبحث الناس الذين يعانون الجور والظلم عن أكثر الأماكن أمناً واستقراراً، وكان من الممكن أن توصف هذه القافلة بأنها النور أو السلام حقيقة فيما لو كانت فعلاً وحقيقة تعبّر عن رغبة هؤلاء الناس بالبحث عن الأمن والأمان، لكن أن تتدثر بهذا العنوان في لعبة الابتزاز التركي فتلك هي الطامة الكبرى التي ما زال (الساسة الثعالب والفلاسفة المشعوذين، والمستبدين بهذا الشعب) يحاولون أن يصوروا (الفاتح المذل رحيماً) ويقنعوه بأن (تركيا تحملتهم لعشر سنوات والآن جاء الدور على أوروبا لتتحمل العبء).

في الواقع، أن تركيا (معارضة وموالاة) لم تعد تخفي أهدافها من تدخّلها بالشأن السوري، وصرّحت بلغة واضحة جلية أنه لا مشكلة لديها مع نظام الحكم في سوريا، وأنها غير معنية بالثورة السوريّة إلا بقدر ما يجعلها قادرة على رسم شكل النظام السياسي السوري الذي يلائم تركيا بالذات لا سوريا، وأن الغاية الوحيدة هي منع الكرد من الحصول على أي حق دستوري في سوريا، فقط لا غير.

مع ذلك ما زال الكثير من السوريين البسطاء البائسين، متدثرين بالحلم والخيال، أن عسى ولعل تركيا، في لحظة ما تتعاطف مع قضيتهم، لكن هيهات، فالنظام السياسي الوريث لجمال باشا السفاح، والمفتخر بجرائم أنور وطلعت لا يمكن إلا أن يكون إجرامياً عنصرياً محتقراً لكل الشعوب ومفضلاً العنصر التركي بصفته أرقى وأشرف الأعراق.

قالها دريد بن الصمة ذات قهر:

لقد أسمعت لو ناديت حياً        لكن لا حياة لمن تنادي

ولهذا المثل المتمثل في بيت من الشعر قصة معبّرة مختصرها أن الابن العاق الذي لم يمتثل لنصح أبيه، وصل به الحال ذات يوم لأن ينتحر فكان في محاولة انتحاره قشة نجاته التي أودعها له والده في سقف بيته، فهل سنرى السوريون يثورون في وجه تركيا بصفتها نظام الإجرام الذي أوصلهم إلى هذا الحضيض قبل أن يوضع عنقهم بين السيف النطع؟.