هالان جمي

رستم عبدو

يعتقد الكثير من العلماء والباحثين أن شمال ميزوبوتاميا كان البيئة الخصبة لظهور الكثير من الحضارات التي تعود إلى فترات متعاقبة، ابتداءً من العصر الحجري القديم بمراحله الثلاث والتي تؤرخ بالفترة الواقعة بين 2300000- 12000 ق.م  كما في موقع شيواتو في منطقة مهاباد وبردا بلكا بالقرب من كركوك  وشانيدار على ضفاف الزاب الأعلى وهزار مرد بالقرب من السليمانية،  وبهستون   في كرماشان  وتمتما، بالقرب من بحيرة أورميا ودودريه في منطقة جبال ليلون في عفرين, مروراً بحضارات العصر الحجري الوسيط  والحديث التي تؤرخ بالفترة الواقعة بين 12000-5000 ق.م كما في موقع زرزي وباليجورا غربي السليمانية، وكوبكلي تبه في أورفا وجايانو شمالي ديار بكر وجرمو  بالقرب من كركوك وحلف بالقرب من سري كانيه (رأس العين)، بالإضافة إلى عشرات المواقع الأخرى.

من المواقع الهامة التي سنخص الحديث عنها هو موقع “هالان جمي”، الواقع شمالي مدينة باتمان بحوالي 50كم  جنوب شرق تركيا في سفوح جبال طوروس على الضفة الغربية لنهر ساسون أحد روافد نهر دجلة،  في منطقة محاطة بالمرتفعات الجبلية والغابات الغنية بأشجار الصفصاف والبلوط واللوز وجداول المياه.

تُعتبر هالان جمي من أوائل المواقع التي شهدت الانتقال من مرحلة الصيد وجمع القوت والالتقاط إلى مرحلة الاستقرار والزراعة وتدجين الحيوانات, الأمر الذي جعل منه أقرب إلى مجتمعات العصر الحجر الحديث.

يرتفع الموقع عن سطح البحر حوالي 640م, وتبلغ مساحته 5 هكتار وارتفاعه عن السهل المحيط به 4م.

اُكتشف الموقع عام 1989م، خلال المسوحات الأثرية  ونُقب في عام 1990م، واستمر التنقيب حتى عام 1994م، ضمن حملة المسوحات الإنقاذية من قبل منظمة دولية بإدارة ميكائيل روزنبرغ وبدعم من جامعة ديلاوير ومتحف ديار بكر.

تم الاستيطان في الموقع على أربعة مراحل حيث قُدر تاريخ المستوطنة إلى الفترة الواقعة بين (10100- 9200 ) ق.م وفق الكربون المشع C14 وذلك بعد تحليل العديد من العينات النباتية والحيوانية وأيضاً دراسة آثار الاستيطان من خلال آثار الأبنية المكتشفة, وهي الفترة التي تتراوح بين الثقافة النطوفية، وثقافة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار PPNA الأمر الذي دفع ببعض الباحثين للقول أن الثقافة النيوليتية انبثقت من هذا الموقع.

عُثر في الموقع على العديد من القطع الحجرية الصغيرة المصنوعة من الصوان وكذلك من الأبسديان كالمدقات والفؤوس والشفرات, وهذا  يدل على ثقافة متطورة عن الثقافة الزرزية وكذلك على وجود علاقات تجارية قديمة باعتبار المصدر الأساسي لهذا النوع من الحجارة كانت مناطق بحيرة وان وبينكول الواقعتان في الجهة الشمالية والشمالية الشرقية منها.

أيضاً عُثر على العديد من الأكواخ الصغيرة بأرضيات حجرية وبأقطار تتراوح بين 2م و7م، يعتقد أنها خصصت لممارسة الطقوس الدينية, كذلك عثر على أبنية على شكل حرف U تعود إلى المرحلة الثانية من الاستيطان, بُنيت جدران هذه الأرضيات من الحجارة والجص, كما عثر على أبنية دائرية.

كما تم العثور على العديد من الحبوب كالعدس والقمح والشعير والبيقية وبذور الفواكه البرية كاللوز، وكذلك تم العثور على بقايا عظام لحيوانات كالخنازير والدببة والسلاحف والغزلان والقطط والماشية… كل هذه البقايا الحيوانية والنباتية تؤكد بأنها كانت برية.

يبقى هالان جمي الذي غُمر بالمياه مع الأسف, من أوائل القُرى التي تم الاستيطان فيها وذلك في منطقة ميزوبوتاميا والشرق القديم.