رجائي فايد –
في حدث غير مسبوق، بدأ الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) زيارته الثانية إلى لبنان الجريح، بزيارة لأيقونتها (فيروز)، وقد كان من المقرر أن يتم اللقاء في مقر السفارة الفرنسية في بيروت، ولكن (فيروز) اعتذرت لأنها لا تخرج من بيتها، فوافق (ماكرون) على أن يلبي طلبها. ذهابه إلى بيروت أول مرة بعد فاجعتها، وكذلك الثاني، لم يكونا وفق القواعد (البروتوكولية)، فبدون دعوة من رئيس لبنان، وبدون أي استقبال رسمي، هبطت الطائرة في بيروت المثخنة بجراحها، ومنها توجه إلى مبتغاه، وهذا يذكرنا بما حدث من قبل خلال زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إلى بغداد، فمن واشنطن إلى بغداد، إلى أن فوجئ به العالم يحضر حفل عشاء وسط جنوده، ثم كانت واقعة قذف بوش بحذاء (منتظر الزيدي)، التي تلقاها بوش ببساطة في حين اعتبرناها حينئذ نصراً مبيناً (!!)، لكن اختلفت أصوات بيروت الاحتجاجية على الزيارة عن الاحتجاج على حذاء (الزيدي)، إذ ضاعت وسط هدير المحتفلين بالزيارة، وما تحمله من آمال بانتشال لبنان من نكبته، وربما تحمل لدى البعض حنيناً إلى الاحتلال الفرنسي (!!)، وملابسات الزيارتين تحتملان بالفعل عودة إلى زمن الحماية.
أشعلت صور فيروز وهي في منتصف العقد التاسع من عمرها مواقع التواصل الاجتماعي، بالكثير من التعليقات على هذا الحدث، لكن أصحاب تلك التعليقات كانوا في شوق لمعرفة ماذا دار بين أيقونة بيروت وسيد الأليزيه، ولم يتمكنوا من التوصل إلى أهم ما دار من حديث، ففي الوقت الذي لم يتحفظ فيه ماكرون على الكشف عما دار في لقاءاته مع الساسة في لبنان، والتلويح بفرض عقوبات عل كل من يثبت عليه فساد (شكل من أشكال الحماية الفرنسية)، آثر الحفاظ على أسرار لقائه (بفيروز) قائلاً إنه يحترم السر الذي تحيط به (جارة القمر) نفسها، وقال (اسمحوا لي أن أحافظ على خصوصية هذا اللقاء، أستطيع أن أقول ما شعرت به وما قلته لها شخصياً)، (إنني أشعر بالرهبة أن أكون أمامها، هذه الفنانة الوطنية، وأن أرى جمالها وهذا السحر الذي تتمتع به، وهذا الوضوح والوعي السياسيين)، واعتبر أن صوت (فيروز) وما يحمله فكرها ووعيها السياسيين ليس فقط مجرد (قطعة إكسسوار في أزمة لبنان)، إنها (تحمل بشكل ربما واقعي أو غير واقعي جزءاً من لبنان الحلم). وتابع قائلاً (إن صوت فيروز لا يزال مهماً)، (لن أتحدث عنها بالتأكيد لأنني أعتقد أن هذا جزء من الحلم والسر الذي تحيط نفسها به، هذا السر هو جزء من فيروز)، لكن أمام إلحاح الصحفيين قال (إن أغنيتي المفضلة لفيروز هي أغنيتها لبيروت)، وفي عبارة تعكس عمق اللقاء، والحرص على الحفاظ على أسراره. ختم ماكرون تصريحاته للصحافيين بكلمة تحمل الكثير من المعاني (لقد تحدثنا، وأيضاً صمتنا)، فالصمت يكون أحياناً أبلغ من الكلام، ثم قلدها وسام (جوقة الشرف)، وهو أرفع وسام في فرنسا، ليضاف هذا الوسام إلى التكريم الذى نالته من رؤساء فرنسا السابقين (فرانسوا ميتران) و(جاك شيراك).
إن (إيمانويل ماكرون) بهذه الزيارة، سعى إلى استنهاض ما بقي في لبنان من قيم، طمرها فساد الساسة، وصراعات أمراء الطوائف، ولم يجد سوى (فيروز) رمزاً لجمال وحضارة لبنان، فبدأ بإزاحة الغبار عن بهاء لبنان في أيقونتها (فيروز)، لتصبح أملاً لفجر جديد وقريب للبنان.
