No Result
View All Result
المشاهدات 0
رجائي فايد –
وما أكثر العجائب في منطقتنا، فشاعر العرب الأكبر محمد مهدى الجواهري، العربي العراقي النجفي القح، من ذا الذي كان يعلم أنه لم يكن عراقياّ ولا حتى عربياً!!، بل كان أعجمياً، وكما تثبت أوراقه الرسمية التي أقرتها السلطات البعثية في العراق، والتي جعلته كذلك لا لشيء، إلا أنه كان معارضاً للأنظمة القمعية في العراق، ونوّه في ظلمها، وفي ظلم كل الأنظمة القمعية أشعاره، ومنها ( ألا تعلم أم أنت لا تعلم ..أن جرح الضحايا فم.. وطن دعائمه الجماجم والدم.. تتحطم الدنيا ولا يتحطم)، ولأنه لم يكن من أولئك التوافه، الذين كانوا يسيرون في مواكب الحاكم (أي حاكم) يلعقون حذاءه، ويدبجون له القصائد في مواكب النفاق، من هنا استحق عليه القول والقرار، بحرمانه من جنسيته!!، وللحكاية أصل تاريخي، استندت عليه السلطات البعثية في العراق، فالعراق كانت خاضعة لدولة الخلافة العثمانية، وكان يوجد في تلك الدولة ما يسمى بـ (سفربلك)، وهو نظام السوق الإجباري ابتدعه الجيش العثماني للمواطنين من أجل زج أكبر عدد من رعايا الدول التابعة للعثمانيين ومنها العراق، وكان المجند من تلك الدول يتم توزيعه في أي مكان تشاءه الدولة العثمانية (من سيبيريا إلى إفريقيا)، وبذلك ينقطع المجند عن أهله وعشيرته بل وأرضه، ربما إلى الأبد، وهروباّ من هذا المصير، فقد توصل بعض أبناء جنوب العراق إلى حيلة تنجيهم من المصير الكارثي لـ (سفربلك)، فكانوا يذهبون إلى القنصل الإيراني في البصرة، لتسجيل أسمائهم على أنهم من أصحاب التبعية الفارسية، كي يتجنبوا الانخراط القسري في (سفربلك)، كإجراء شكلي ليس إلا، فهو لم يتخلَ عن هويته العراقية، كما أن القنصل الإيراني ولا أحد لا يملك ذلك، فما هو مثبت في الأوراق شيء والواقع شيء آخر، كما أنه لا يسجل الاسم بصفته تحول من العراقية إلى الفارسية، كل ما هنالك أنه تحول من حماية دولة إلى حماية دولة أخرى، وهذا ما فعله أحد أجداد شاعرنا الكبير، ولقد عايشت هذه الحالة بنفسي إبّان عملي في العراق، إذ كانت هوية أي مواطن عراق، يذكر فيها جنسيته العراقية ثم تبعية هذه الجنسية (عثماني أو إيراني حيث كانتا تتنافسان تاريخياّ على العراق، وكانت علاقة العراق بأي من الدولتين (تركيا أو إيران) تنعكس على المواطن وتبعيته، فخلال الحرب العراقية الإيرانية، كان أصحاب التبعية الإيرانية يعاملون كمواطنين مشكوك في انتماءهم الوطني، فيحرمون من كافة الفرص المتاحة لهم كأي مواطن سوى، بالرغم من مشاركتهم في الحرب البعثية الفارسية، وتقديمهم لآلاف الضحايا في محرقة تلك الحرب، وكل هذا لم يشفع لهم ولا لأهل وعشيرة الجواهري، وتلك من الكوارث السياسية على المواطن، فبقرار فوقي يجعل المواطن غريباً في وطنه ، يحرمه من تاريخه، ومستقبله، وأحلامه، بل يحرم الوطن ذاته من هذا المواطن، فبدلاً من أن يكون إضافة للوطن، جعلته القرارات الفوقية خصماً من هذا الوطن، إن علاقة المواطن بالوطن، ليس مجرد مكاناً لإقامة المواطن، يبقى فيه بقرار ويحرم منه بقرار، ولكن علاقة المواطن بوطنه هي علاقة توحد بين طرفين، ولا يمكن لأى قرار أن يفصل بينهما حتى ولو بقرار من المواطن ذاته، لقد نشأ ذلك التوحد من علاقة جدلية بين الإنسان والمكان تراكمت على مر التاريخ، إلى أن أدت إلى علاقة التوحد تلك، بحيث لا يفلح أي صاحب أي قرار في تمزيق العلاقة بين الطرفين، ولقداسة البابا الراحل شنودة الثالث كلمة بليغة عن علاقة التوحد بين مصر والمصريين (مصر ليس وطناً نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا)،وهى كلمة تنطبق على علاقة المواطن بالوطن في كل مكان.
No Result
View All Result