سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

 السقوط إلى الأعلى… في قصة “مدد.. مولانا مدد”

عبدالوهاب بيراني 

قراءة في القصة القصيرة “مدد.. مولانا مدد” للكاتبة السورية المغتربة هند زيتوني
الأدب، وعبر جميع أجناسه من رواية ومسرح وشعر أو قصة قصيرة، تعبر عن قضايا وموضوعات ذات صلة بالواقع المعاش فيستمد قصصه من المجتمع ومن الشارع والصراع ومنظومة فكرية وحياتية معيشية، ولعل القصة القصيرة هي الجنس الأدبي القادر على رصد زوايا محددة ومستويات مجتمعية، وشخصيات معينة ضمن حبكة وسرد وموضوعات ذات صلة مباشرة بالحوارات والمونولوج ونهاية تختتم بها القصة.
لست هنا بصدد الكتابة عن أشكال القصة القصيرة وتنوع أساليب كتابتها كجنس أدبي مازال يحقق إنجازاته الإبداعية كأدب وفكر وثقافة، وإنما للوقوف على حالة كتابية عبر قراءة ودراسة سريعة لقصة قصيرة للكاتبة الروائية  والشاعرة السورية “هند زيتوني”، والتي تمتلك قدرة سرد روائية عالية ونفس حكائي منحتها القدرة على الإمساك بخيوط القصة ونسج حبكة تمتاز بفكرة ليست جديدة، وقضية سبق أن تناولتها أقلام عدة، وساهمت السينما والدراما التلفزيونية بتصوير أجواء قصص قريبة منها ومشابهة لها، ولكننا حينما نقرأ كل ذلك وفي قصة منفصلة بشخوصها وأبطالها فنقرأ فيها مشاعر أنثى مسلوبة الإرادة فيما يوجهها المجتمع الذكوري نحو بدايات وربما نهايات ترسم لنا حلولاً قاتمة أشد وطأة من المشكلة أساساً، عبر عتبات النص والعنونة المميزة والتي تشير فيها الكاتبة هند زيتوني بازدراء وسخرية مرة بحقيقة الفكر الغيبي والذي لا يعد إلا غباءً غبياً ولا يمت للفكر بأي صلة، فأي مدد وأي معجزات وأية بركة تلك التي كَثُر تجارها ووسطائها عبر وسائل الإعلام والتي باتت تعمل ليل نهار عبر فضائيات تلفزيونية ومواقع إلكترونية خاصة لتسويق أكاذيب وشعوذة تضر ولا تنفع، وتبيع أحلاماً وأمالاً وأمنياتٍ يذهب ضحيتها ليس البسطاء فقط من البشر وما أكثرهم، إنما شخصيات فنية وعلمية وأصحاب كفاءات مهنٍ وحِرفٍ وذوي تعليمٍ عالٍ أيضاً، ويأتي اختيار الكاتبة الدقيق لأسماء بطلات القصة (أماني “و أم ناجي”) والتي أتت كإضافة إبداعية لتخدم بنيان القصة والسرد، فهي تحاول ومن خلال القصة القصيرة المعنونة  بـ “مدد.. مولانا مدد”، إضاءة إحدى جوانب حياة المرأة في المجتمع الذكوري الغارق في الظلمة والعتمة.
 فالمرأة هنا ومن خلال شخصية “أماني” لا تبحث عن أمومة اعتيادية ستأتي لاحقاً.. لكنها تسابق الزمن بعد عقد كامل من الانتظار والقلق والعذاب والخوف، وقبل أن يتركها الزمن” الشبح”، شجرة يابسة لا نسغ يجري في عروقها ولا ثمر يُلقى من رحمها، وهي لا تبحث عن ذاتها ولا تطمح إلا  إلى جنين، أن تصبح أُماً، همها الأزلي أن تحافظ على ذاتها كزوجة.. وعلى زوجها و(بيتها)، بواسطة أمومة تفقدها وتسعى إليها، تلك الأمومة التي ستكون لها سنداً للاستمرار وأجنحة للطيران والتحليق في فضاءات مجتمعية لا تؤمن بالمرأة إلا آلة للإنجاب فقط. لذا تحاول “أماني” جاهدةً أن تحافظ على صورتها كزوجة وشريكة لرجلٍ ذكر وعليها أن تنجب أبناءً ذكور، هي ليست امرأة بل هي زوجة.. تفتقد إنسانيتها تفقد كل شخصيتها فقط تعمل بلا طموح لتحافظ على صورة الزوجة، شريكة رجل على أن تنجب فقط وذلك هو إنقاذ لها للسقوط، وتلك الفكرة هي تذكرتها لحضور حفل ساهر لا ينتهي.
مأساة مستدامة أدواتها الفقر والجهل
الأهل يرفضون عودتها كون عودتها لبيت ذويها وأهلها بعد الزواج  مصيبة وبلاء  وعارٌ أيضاً، ففكرة الطلاق أهون من تقبل خبر الموت، هذا من جهة ومن جهة أخرى الفقر يداهمها ويعشعش في منزلها الزوجي فالزوج فقير ويبدو ومن خلال النص إنه نجار بسيط مهنته لا تدر المال الكثير.. ويبدو أنها باعت كل ما تملك من ذهبٍ تزينت به يوم زفافها الميمون لتبني  به حلماً شاركها زوجها بصنع سرير خشبي صغير للمولود القادم عبر سلال الخداع والرذيلة والمكر. تبحث عن أمومة بعدما رأت أن الزوج وعائلته وعائلتها والمجتمع لا يقبلها عاقرة ودون طفل، تبحث عن طفل من دمها ولحمها وتحلم به منقذاً لها ومدافعاً عنها ضد تسلط الزوج وتعسف العائلة والمجتمع….
الطب يفشل وكل الوصفات الشعبية تفشل والزوج مكابر لا يراجع طبيباً أو مركزاً للعلاج ولا يعترف بقصوره ولا يقبل أبداً أن تكون رجولته في الميزان وأن تتعرض للقيل والقال فالذكورة هي الرجولة وهي الفحولة عنده، فتمضي الزوجة نحو أمل يغريها بطفل ينجيها من طلاق جائر أو عار ذليل.
“أماني”… وما خلف المعاني..
يا له من اسم جميل لزوجة شابة وجميلة، أماني مازالت تحلم وتتمنى أن تتحقق أمانيها وأمنياتها التي انكمشت وتكورت وأصبحت مجرد فكرة أو حلمٍ أن ترى بطنها  قد تكور على جنين يمنحها الحياة كأم و كامرأة وكزوجة ومربية ومحظية ومرضية لزوجها ولعائلته أيضاً وبالتالي تنقذ نفسها من السقوط عبر سقوط آخر، لذلك تلجأ إلى سحرة ومشعوذين ومشعوذات، وإلى شراء ذلك بمالٍ بالكاد حصلت عليه فهي المسكينة المغلوبة على أمرها كما الكثيرات يشاركهن في البؤس ذاته والحلم نفسه لقاء مبلغٍ ماليٍ ليس صغيراً في محاولة هروبها وفرارها من قاعٍ إلى قاعٍ آخر أشد عتمة وضياعاً، حيث تفر من سطوة ذكورية ومن ظلامية المجتمع وسقوطٍ الي سقوطٍ وسط تصفيق المجتمع لها.. مجتمعُ الخرافة ومجتمعُ الخوفِ من المجهول ومن الإله ومن البشر.. خوفٌ من كل شيء.. مجتمعٌ يفرح للجُبن وللرياء وللخداع…
لا مدد ولا مدد
حاولت إنقاذ رجولة زوجها
حاولت أن تبني أسرة سعيدة
لنتفاجأ بالنهاية إن المجتمع هو نتاج خرافة ومال وشعوذة وانهدامِ قيم وأخلاق وأنه مجتمع قائم على الرذيلة في انعدام الفضيلة. مجتمعٌ مدحور يغرق بالفقر المادي والمعرفي والديني. مجتمعٌ عاري، بلا سند بلا سقف، مجتمعٌ تناسلي، ينسل ثقافة موبوءة وموؤدة، ثقافة غيبية ومجتمع آخر همه الكرامة والحب والسلام، مجتمع مازال ينظر للسماء ينتظر مطراً وسحابة خير ويفتح يده للدعاء منتظراً أن  تهطل عليه السماء بالذهب والفضة والدولارات والأولاد والمزيد من الجياع.
قصة تتأرجح ما بين الحاجة وإرضائها وما بين السقوط والنجاة، العيش.. والفرح.
بنفسٍ شاعريٍّ تختتم القاصة والكاتبة المبدعة “هند زيتوني” القصة، وربما مازال بيت تلك العجوز المكتنزة مفتوحاً تبيع الحلم وما زال الأبناء يلعبون في أعلى الحارة.. ورجال بياقاتٍ بيضاء وأربطة عنق أنيقة يخطبون ويلقون الكلمات ورجال يصفقون.. ونساء تلدن أطفالاً “شرعيين”.