No Result
View All Result
المشاهدات 7
عبد العزيز قاسم (إعلامي وكاتب صحفي)
لا شيءَ في هذا الكون يوازي يقينَكَ بأنَّ ثَمَّةَ قلبًا واحدًا، حين يرفُّ في صدرك الحُمَّى أو يخنقكَ السُّعال، يهبُّ من فراشه — ولو تكسَّرتْ مفاصله — ليضيءَ لك طريقَ العافية: قلبُ أُمِّكَ.
ثَمَّةَ حقائقُ في الوجود أكبرُ من أن تُدحَض، وأرسخُ من أن تهزَّها رياحُ الشك؛ وعلى رأس هذه الحقائق، الثابتةِ ثباتَ النجومِ في أكباد السماء، تقف حقيقةٌ واحدةٌ مطلقةٌ: لا يوجد حُبٌّ في هذا العالم أصدقُ من حُبِّ الأُمِّ.
تطوف الأقطارُ كلَّها، وتغوص في أعماق البحار، وتقلب وجوهَ البشر، ولكنك ستعود في نهاية المطاف إلى يقينك الأوَّل: أنَّ الإنسانةَ الوحيدةَ التي تراك طفلًا — ولو شاخ الزمان في مفارقك — هي أُمُّك؛ هي وطنُك الذي لا يُغادِرُك، وإن غادرتَه أنت.
ما إن وصلتُ المدينةَ المنوَّرة — يومَ أمس — مُثقلًا بالوجع، حتى تلمَّستْ أُمِّي بحاسَّةٍ عجائبيةٍ رعشةَ صوتي؛ فلم أحتجْ شرحًا ولا تقريرًا طبيًّا، إذ في أقلَّ من ساعةٍ كانت «شوربتُها» ذاتُ المفعول السحري على المائدة، تحفظها عن ظهر قلبٍ كما تحفظ وجهي، وتفاصيلَ بكائي حين كنت طفلًا.
شوربةٌ كأنَّها عصارةُ عمرِها، حشتْها بما لا يُكتب في الوصفات: دجاجٌ مُقطَّعٌ كالأمل، خضرواتٌ مطبوخةٌ بِلُطفٍ كحنانها، فلفلٌ أسودُ كأنَّه خُطَّ بدمع القلق، عصرةُ ليمونٍ تُنعش الروح قبل الحلق.
كلُّنا — نحن أبناءَها — نلُوذُ بها عند الوعكات، ونتمزمز بها، وأذكر أنِّي — من شدَّة اللذة — رغبت أن ألعق الطبق كما يفعل طفلٌ لا يعرف الآداب، ولا يريد أن يُفوِّت قطرةً من حنان أُمِّه! وأنا الممتنع منذ يومين — بسبب الغثيان — عن أن أضع شيئًا في فمي؛ غير أنَّ هذا طعامٌ من يد أطهرِ إنسانٍ في الوجود لك.
ثَمَّةَ لغاتٌ لا تُكتب ولا تُنطق؛ تترجمها الأُمهاتُ بطبقٍ، بكوبٍ، باحتضانٍ، وبابتسامةٍ من خلف حجابِ الألم. وبمجرَّد أن أسندتُ ظهري للمقعد، وأنا ألهج بشكرها ولذة ما قدَّمت، إذا بها تُبادِرني بكوبٍ من قرفةٍ وعسلٍ وليمونٍ، وأسرارٍ أخرى لا أعرفها إلا بقدر جهلي بسرِّ خلقتها.
أجبرتني أن أحتسيه دافئًا بنبرةٍ صارمةٍ فيها رجاء، وحين نظرتُ في عينيها، لم أرَ سيدةً في منتصف ثمانينات عمرها؛ بل طفلةً تبكي إن لم يشفَ ابنها، امرأةً لو خُيِّرت بين شفائي وأن تمرض هي لاختارت الأولى دون تردُّد.
من يفعل هذا؟
من يحسُّ بك قبل أن تنطق؟
من يخافك الموت أكثر ممَّا تخافه أنت؟
من إذا أخبرتها أنك متوعِّكٌ، تُصاب هي بكل الأوجاع عنك؟
مَنْ؟ غير أُمِّكَ!
أيُّ كائنٍ على الأرض يُسابق حاجتَك قبل أن تنطق بها غيرُ الأُمِّ؟
أيُّ رادارٍ يلتقط نداءاتك الصامتة غيرُ نبع الحنان؟
هي الوحيدةُ التي تقلق عليك وإن وُصِفْتَ بالجدِّ، ورُزِقت بالأحفاد، وحفَّ الشَّيبُ هامَتَك.
الأُمُّ لا تُعالِجُك؛ بل تُنقِذُك. لا تطبخ لك؛ بل تُذيب شيئًا من روحها كي تُطعِمَك الحياة.
الزوجةُ الطيِّبة والصالحة— النادراتُ كالنيازك في هذا الزمن — تُداوي، نعم؛ الأبناءُ يُحبُّون، صحيح؛ الإخوةُ يسألون، الأحبابُ يُواسون. لكن لا أحد في هذا العالم يُذيب نفسَه فيك، ويذوب عشقًا بك، ويهرع دون تفكيرٍ أو حسابٍ ليصنع لك من نفسِه دواءً، ومن عمرِه مرقًا ساخنًا، كأُمِّكَ.
يا سادة: قولوا لي، أيُّ روحٍ في هذا الكون تُحبُّك بلا شروط، تُعطيك بلا حساب، تُنصت لحُمَّى أنفاسك وتفهم ضجيج صمتك… غيرُ أُمِّك؟
حُبُّ الآخَرين إضافةٌ لحياتك، أمَّا حُبُّ الأُمِّ فهو الحياةُ نفسُها.
ها هي والدتي — وأنا على أعتاب مغادرتي لها متجهًا إلى محطة قطار الحرمين في المدينة المنوَّرة — تنتزع من يدي كوبي الذي يؤنس وحشتي في الأسفار، وتتحامل على نفسها، وهي التي تخطو بصعوبة في هذا العمر، لتعدَّ لي بنفسها ذلك المشروب الذي تؤمن بأنَّه شفاء، من تلك التي تملأ أرففَ العطارين؛ لتضع لي فيه آخرَ ذرّات الاطمئنان في قلبها.
حقًّا: كلُّ مشروبٍ من يد أُمٍّ لابنها هو تعويذةٌ من تراتيل السماء، مسكونٌ بالشفاء، مشحونٌ بالحبِّ الذي لا يَفنى. أكتب هاته السطور لكم وأنا الآن في القطار، أرتشف منه ببطء، لا لأنِّي أتَلذَّذ فقط، بل لأنِّي أرتشف عمرها، وعطر دعائها، وذوب روحها في فنجانٍ واحد.
سمعتُها من حكماءَ عديدين، وأصدقاء يقولونها والدموعُ تغلبهم: إذا ماتت أُمُّك، فالعالمُ كلُّه يصبح غريبًا؛ تصبح يتيمًا، ولو كنتَ على عتبة التسعين؛ تمضي كأنَّك جسدٌ بلا ظلٍّ، صوتٌ بلا صدى، جرحٌ بلا ضماد.
الذين خسروا أمهاتهم لا يشيخون فقط، بل يكبرون فجأةً ألفَ عامٍ في يومٍ واحد..
الأُمُّ هي حجَّةُ الإنسان على الدنيا، فإذا غابتْ ضاعتْ حجَّتُه، وسار في البرِّية هائمًا يستنجد بالذكريات.
اللهم ظلّل أمِّي برحمتك وحنانك الأبديّ.
No Result
View All Result