No Result
View All Result
المشاهدات 15
محمد عيسى
منذ لحظة الانفجار السوريّ عام 2011، خرجت المدن والبلدات من صمتها الطويل وأطلقت نداءات الحرية والكرامة، وبدأت حقائب السوريين تُحزم باتجاه المجهول. وكانت موجة النزوح الأولى داخليّة، وما لبثت أن تحولت إلى حركةِ لجوءٍ خارجيّ هي الأكبر في تاريخ المنطقة الحديث. وبحلول منتصف عام 2025، يكون قد مرّ أكثر من ثلاثة عشر عاماً على أكبر موجة نزوح في القرن الواحد والعشرين، وأكثرها تعقيداً، فقد خرج ما يزيد عن 13 مليون سوريّ من منازلهم، نصفهم تقريباً عبر الحدود.
العدد المُسجل لدى مفوضية اللاجئين (UNHCR) يشير إلى وجود أكثر من 5.6 مليون لاجئ سوريّ مسجلين في دول اللجوء، في حين تُقدّر الأعداد الحقيقيّة، بما في ذلك غير المسجلين، بأكثر من 7.2 مليون لاجئ يعيشون في الشتات. يعيش هؤلاء في ظل تفاوتات قانونيّة واقتصاديّة واجتماعيّة شديدة، ويتوزعون في ثلاثةِ فضاءاتٍ رئيسيّةٍ: الدول المجاورة (تركيا، لبنان، الأردن، العراق)، والدول الأوروبيّة (ألمانيا، السويد، هولندا، النمسا، وغيرها)، فضلاً عن دول الشتات البعيدة مثل كندا وأستراليا.
متى بدأت موجات اللجوء؟
بدأت موجة اللجوء السوريّ بشكل متصاعد منذ عام 2012، حين أطلق النظام السوريّ حملته العسكريّة في مدن درعا وحمص وإدلب، فتدفّق آلاف السوريين إلى دول الجوار هرباً من القصف والتنكيل والاعتقال. لكن هذا التدفق سرعان ما تحوّل إلى موجةٍ هائلةٍ من النزوح مع تصاعد وتيرة الحرب، لا سيما بعد معركة أحياء مدينة حلب الشرقيّة أواخر عام 2016، التي مثّلت نقطةً فاصلةً في مأساة اللجوء، ومن بعدها معركة الغوطة الشرقيّة عام 2018، وعمليات التحالف الدوليّ ضد مرتزقة “داعش” في دير الزور والرقة عام 2017. ومع كلّ معركة جديدة، كانت البيوت تُهدم فوق رؤوس ساكنيها، والمخيمات على الحدود تتوسّع، والطرقات إلى أوروبا تزدحم بالمُنهكين. رغم أنّ عام 2012 كان بداية الانهيار، فإنّ الأعوام الممتدة من 2013 إلى 2016 شكّلت الذروة الحقيقيّة لنزوح ملايين السوريين، في واحدة من أكبر موجات اللجوء في العصر الحديث، دفعت خلالها سوريا أكثر من نصف شعبها إلى التشرّد بين الداخل والخارج.
في مقدمة الدول المستقبلة بقيت تركيا تتصدر المشهد، إذ استضافت حتى مطلع عام 2024 ما يزيد على 3.2 مليون لاجئ سوريّ، وهو ما يعادل أكثر من نصف عدد اللاجئين السوريين المسجلين لدى المفوضية حول العالم. وهذا الرقم الضخم فرضه القرب الجغرافيّ وسياسة الحدود المفتوحة التي اتبعتها أنقرة عمداً، وبذلك لم يكن عبئاً إنسانيّاً بالمعنى الدقيق للكلمة، بل حوّلته إلى ورقة سياسيّة، تلعب به حكومة العدالة والتنمية داخليّاً في مزايدات انتخابيّة، وخارجيّاً في ملفاتِ التفاوضِ مع الاتحاد الأوروبيّ وحصلت على أموال طائلة في اتفاق آذار 2016.
أما لبنان، فقد تحوّل إلى محطة ثقيلةٍ لمئات الآلاف السوريين، وتقول الحكومة إنّ العدد الحقيقيّ للاجئين السوريين يتجاوز 1.5 مليون، رغم أنّ المفوضية لا تعترف سوى بـ 805 آلاف. في بلد يعاني من أسوأ أزمة اقتصاديّة منذ عقود، ويعيش اللاجئون في ظروف قاسية، بلا كهرباء ولا طبابة ولا ضمان، وفي ظلِّ خطاب كراهية متصاعد من قوى سياسيّة تحمّلهم مسؤوليّة الانهيار.
الأردن من جهته، استقبل قرابة 630 ألف لاجئ مسجّلين، مع تقديرات بوجود نصف مليون آخرين غير مسجلين. هؤلاء يتوزعون بين المخيمات، مثل الزعتري الذي أُقيم في تموز 2012، ومخيم الأزرق، إضافة إلى المدن الكبرى كإربد والمفرق.
في إقليم كردستان، وجد نحو 250 ألف لاجئ، معظمهم من أبناء الحسكة، بعض الطمأنينة في مدن مثل هولير ودهوك والسليمانية، حيث الروابط الثقافيّة واللغويّة وفّرت شيئاً من التماهي المجتمعيّ.
أما أوروبا، فقد شهدت أكبر تدفّق نحو ألمانيا بين عامي 2015 و2017، إذ استقبلت وحدها أكثر من 800 ألف لاجئ سوريّ، فكانت الوجهة الأولى أوروبيّاً. وعلى الرغم من صعوبة اللغة وتعقيدات سوق العمل، فقد حصل اللاجئون هناك على فرص اندماج أفضل نسبيّاً. والسويد، بدورها، استقبلت أكثر من 120 ألف لاجئ، وقدّمت دعماً واسعاً في البداية، قبل أن تتجه منذ عام 2020 نحو التشدد في قوانين الإقامة. كما احتضنت هولندا والنمسا عشرات الآلاف من اللاجئين، بنسب متفاوتة من الدعم والاندماج، تبعاً لتحولات السياسات الداخليّة، وصعود اليمين في بعض المحطات الانتخابيّة. وهكذا، توزّع السوريون بين المنافي، وتحوّلت رحلة اللجوء من هروب مؤقت إلى إقامة طويلة الأمد، لا تزال حتى اليوم تتقلّب بين الأمل والمعاناة.
الواقع اليوميّ للاجئين
الواقع اليوميّ لملايين اللاجئين السوريين في دول الجوار وأوروبا لا يزال محفوفاً بالتحديات، حيث تتحول تفاصيل الحياة اليوميّة إلى معركة بقاء في ظل غياب الحماية القانونيّة وصعوبة الوصول إلى الحقوق الأساسيّة. في ميدان العمل، لا يزال القسم الأكبر من اللاجئين يمتهنون أعمالاً هامشيّة، غالباً في ظروف استغلاليّة. ففي تركيا، ورغم مرور أكثر من 12 عاماً على اللجوء، لم يحصل سوى 14% من السوريين على تصاريح عمل رسميّة حتى نهاية عام 2023، بحسب بيانات وزارة العمل التركيّة. يعمل معظمهم في قطاعات مثل الزراعة، البناء، والنسيج، وغالباً بأجور متدنية ودون تأمين صحيّ أو ضمان اجتماعيّ. أما في لبنان، فالأمر أكثر خطورة، إذ تشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 85% من اللاجئين السوريين يشتغلون في الاقتصاد غير الرسميّ، أي في مهنٍ لا توفر أدنى درجات الأمان القانونيّ، ما يعرّضهم للفصل التعسفيّ، الحرمان من الأجور، أو حتى التبليغ الأمنيّ بحجّة الإقامة غير النظاميّة.
وفي مجال التعليم، تبدو الصورة قاتمة على نحو مقلق، خصوصاً في لبنان، حيث يُقدّر أنّ أكثر من 40% من الأطفال السوريين خارج العملية التعليميّة، يعانون من صعوبات التسجيل، وارتفاع الكلفة، أو الحاجة للعمل لإعالة أسرهم. وفي الأردن، ورغم الجهود الحكوميّة والدعم الدوليّ، فإنّ نحو 120 ألف طفل سوريّ فقط مسجلين في المدارس الرسميّة، مع تناقص هذه النسبة في المراحل الثانويّة بسبب الفقر، أو الزواج المبكر، أو ضغط العمل. أما في أوروبا، فتتوفر بالفعل بنية تعليميّة جيدة، إلا أنَّ اللاجئين يواجهون تحدياتِ اللغة والاندماج، ما يعيق تقدمهم في المسار التعليميّ، خصوصاً في دول مثل ألمانيا والسويد.
وفيما يخص السكن والخدمات، يعيش نحو 75% من اللاجئين السوريين في لبنان تحت خط الفقر المدقع، في خيم أو بيوت مهترئة تفتقر لأبسط مقومات الحياة. في تركيا، يُقدّر أن ما يزيد على 60% من السوريين يعيشون في أحياء فقيرة ومكتظة، على أطراف المدن الكبرى مثل إسطنبول ورها (أورفا) وديلوك (عينتاب). وفي الأردن، لا يزال قرابة 20% من اللاجئين يقيمون في مخيمات الزعتريّ والأزرق، حيث تعاني الخدمات من نقص مزمن. إلى جانب ذلك، تبرز العقبات القانونيّة، إذ يواجه السوريون في تركيا ولبنان قيوداً متصاعدة: إقامات مؤقتة، وتجديد دوريّ مرهق، ومنع من التنقل بين الولايات التركيّة، أو حتى خطر الترحيل القسريّ بذرائع إداريّة. وفي أوروبا، ومع صعود التيارات اليمينيّة منذ 2018، بدأت بعض الدول بتشديد قوانين الإقامة، ما خلق شعوراً متزايداً بعدم الاستقرار لدى آلاف اللاجئين.
هل سوريا آمنة لعودتهم؟
هل سوريا آمنة لعودة اللاجئين؟ سؤال يتكرر في الأروقة الدوليّة، لكنه يلقى حتى اليوم إجابات مترددة، وغالباً سلبيّة. ففي 12 حزيران 2025، جددت الحكومة الألمانيّة تأكيد موقفها الرافض لإعادة اللاجئين السوريين قسراً، مشددة في بيانٍ رسميّ أنّ “الظروف في سوريا لا تضمن الحد الأدنى من العودة الكريمة والآمنة”. وهذا الموقف لم يكن معزولاً، إذ سبقته مفوضية اللاجئين بتقرير مفصل في نيسان 2025، أكّدت فيه أنّ شروط العودة الطوعيّة “غير متوفرة”، مشيرة إلى غياب مقومات السلام والاستقرار ووجود انتهاكات ممنهجة في مناطق النظام السوريّ.
الاعتقالات التعسفيّة تظل أبرز ما يثير مخاوف اللاجئين، إذ وثّقت “الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان” أكثر من 312 حالة اعتقال لنازحين عادوا من لبنان والأردن ما بين عامي 2021 و2024، بينهم 26 امرأة و17 طفلاً، بعضهم أُخفي قسريّاً لأسابيع، فيما تعرض آخرون للتعذيب أو الابتزاز الماليّ للإفراج عنهم. وتبقى تلك الأرقام مجرد جزء من الانتهاكات المسجلة، وسط غياب الشفافيّة داخل أجهزة الأمن.
كما استمرت عمليات مصادرة الأملاك، خصوصاً بعد تفعيل القانون رقم 10 لعام 2018، الذي منح السلطات صلاحيات واسعة لمصادرة أملاك الغائبين والمعارضين بحجة إعادة الإعمار. هذه السياسة شملت عشرات الآلاف من العقارات، وحرمت أصحابها من حق العودة إلى منازلهم.
ورغم الإطاحة بالنظام السابق، لا تزال القبضة الأمنيّة هي المتحكم الرئيسيّ في معظم المناطق، ومازالت الفروع الأمنيّة ونظام العسكر يمارس صلاحيات فوق القضاء، وتُنفذ عمليات توقيف وابتزاز يوميّ بشكل روتينيّ، في غيابٍ تام لأيّ إشراف قانونيّ مستقل.
المواقف الإقليميّة والدوليّة من ملف اللاجئين
تحوّل ملف اللاجئين السوريين خلال السنوات الأخيرة من قضية إنسانيّة إلى ورقة سياسيّة معقّدة تستخدمها الدول كأداةِ ضغطٍ ومساومةٍ في الملفات الإقليميّة والدوليّة. وتركيا، وعلى سبيل المثال، لم تكتفِ بدورها كدولة مضيفة، بل أعادت صياغة موقعها في المعادلة عبر الاستثمار في هذا الملف سياسيّاً واقتصاديّاً. فبات اتفاق الهجرة الموقّع مع الاتحاد الأوروبيّ في آذار 2016 بمثابةِ نقطةِ تحوّلٍ، وحصلت أنقرة بموجبه على أكثر من 6.3 مليارات يورو حتى عام 2023 مقابل منع تدفق اللاجئين نحو أوروبا. ومع نهاية عام 2024، كان النظام التركي قد منح الجنسية لنحو 230 ألف سوريّ، في خطوة أثارت جدلاً داخليّاً حول التوازن الديمغرافيّ وتأثير اللاجئين على الانتخابات. كما استخدمت تركيا آلاف السوريين المجنّدين للقتال في ليبيا منذ أواخر 2019، ثم في إقليم ناغورنو كاراباخ عام 2020، ما أضفى على القضية طابعاً أمنيّاً يتجاوز الإيواء الإنسانيّ.
أما لبنان، الذي يعاني من أسوأ أزمة ماليّة في تاريخه منذ 2019، فقد شهد تحوّلاً خطيراً في خطابه تجاه اللاجئين. فمع تصاعد الكراهية المدفوعة من بعض القوى السياسيّة، تحوّلت البلديات إلى أدواتٍ قمعيّةٍ، وشُنت عشرات حملات المداهمة والترحيل القسريّ في 2023 و2024، خاصة في مناطق الجنوب والبقاع، بذريعة “تنظيم العمالة” أو “مخالفات الإقامة”، وسط غياب تام لأي رقابة قانونيّة أو ردّ فعلٍ فعّال من المجتمع الدوليّ.
الأردن حافظ على سياسة متزنة نسبيّاً، مركّزاً على ضبط حدوده الشماليّة ومنع التهريب، لا سيما بعد تصاعد نشاط شبكات الكبتاغون بين 2022 و2024، لكنه لا يزال يشكو من تراجع الدعم الدوليّ، الذي انخفض بنسبة 43% بين 2020 و2023، وفق بيانات وزارة التخطيط الأردنيّة. ومع أن عمان تؤكد على ضرورة “العودة الطوعيّة”، فإنّها لم تتخذ حتى الآن إجراءات قسريّة للترحيل، بل اكتفت بتشجيع العودة من خلال حملات إعلاميّة وتسهيلات محدودة.
في أوروبا، انقسمت المواقف، ففي حين حاولت الدنمارك عام 2021 تصنيف دمشق كمنطقة “آمنة”، سرعان ما واجهت موجة انتقادات دفعتها لتجميد قرارات الترحيل. وترفض معظم الدول الأوروبيّة الأخرى، خاصة ألمانيا والسويد وهولندا، إعادة اللاجئين دون ضماناتٍ حقوقيّة. وفي الوقت نفسه، تستثمر هذه الدول في برامج دعم بمناطق الجوار مثل تركيا ولبنان والأردن، بهدف منع انتقال اللاجئين إلى أراضيها. أما بعض الحكومات الأوروبيّة، مثل النمسا والمجر، فقد بدأت منذ 2024 محاولات تفاوضيّة غير رسميّة لعقد اتفاقيات إعادة مع دمشق، لكنها اصطدمت بعقبة عدم الاعتراف الدوليّ بالسلطة الجديدة، مع غياب أيّ ضمانات قانونيّة بخصوص مصير العائدين.
في هذا السياق، لم يعد ملف اللاجئين ملف إنسانيّ الطابع فحسب، بل ساحة تقاطع بين الأمن والاقتصاد والسياسة، حيث تُستخدم المعاناة الإنسانيّة وقوداً لمساومات جيوسياسيّة، في غيابٍ أيّ رؤية إقليميّة أو دوليّة لحلٍّ مستدامٍ أو عادل.
لا وطن آمن… ولا منفى كريم
اللاجئ السوريّ يقف اليوم بين مطرقة المنفى وسندان العودة القسريّة. لا المنفى يضمن له الكرامة الكاملة، ولا الوطن بات قادراً على استقباله دون مخاطرة. ومنذ ثلاثة عشر عامًا، لا تزال خريطة المنفى تتسع، والحنين يتقلص، والثقة تتآكل.
لا يمكن التوصل إلى حلٍّ جذريّ لملف اللاجئين السوريين دون حلّ سياسيّ شامل في سوريا، يضمن الحريات، العدالة، والمحاسبة، ويعيد بناء الثقة بين الإنسان السوريّ والدولة التي بات يخاف منها أكثر مما يأمل فيها. وحتى ذلك الحين، سيبقى المنفى هو الخيمة الأبديّة التي يستظل بها السوري، ولو كانت مثقوبة من كل الجهات.
من يعيش في المنفى لأكثر من عقد كامل، لا يعود لاجئاً بالمعنى التقليديّ فقط، بل يصبح جزءاً من هويةٍ منفية تعيد تشكيل ذاته، ثقافته، أسرته، ومستقبله. اليوم، وهناك أكثر من 2.2 مليون طفل سوريّ ولدوا خارج سوريا بعد عام 2011. هؤلاء لا يعرفون عن وطن آبائهم شيئاً، يعيشون في بيئات لغويّة وثقافيّة مختلفة، ولا يحمل بعضهم أي وثائق رسميّة من الدولة السوريّة.
No Result
View All Result