حمزة حرب
تتجدد أزمة رواتب موظفي باشور كردستان مع الحكومة الاتحاديّة في بغداد مع كلّ دورة ماليّة، لتأخذ في عام 2025 جانباً أكثر تعقيداً، خصوصاً بعد قرار وزارة الماليّة الاتحاديّة إيقاف تحويل المخصصات الشهريّة، ما أدى إلى تصاعد التوتر بين بغداد وهولير، ودفع الأزمة نحو مستويات غير مسبوقة من التصعيد السياسيّ.
سلطات باشور كردستان التي كانت تتطلّع إلى قدرٍ من المرونة من قبل الحكومة الاتحاديّة العراقيّة لتسهيل حلحلة الخلافات الماليّة بين الطرفين اصطدمت بمسار عكسيّ نحو المزيد من التعقيد بدل الحلّ، مسلّطة المزيد من الضغوط على الموظفين الذين يواجهون وضعاً اجتماعيّاً معقّداً جرّاء ارتباط رواتبهم بحلحلة الخلافاتِ السياسيّة بين بغداد وهولير، حيث باتت الأخيرة تقف على مفترق طرق يتطلب منها قرارات مصيريّة لضمان الاستقرار الماليّ لموظفيها.
مشكلة معقدة ذات جذور متشعبة
تُعدّ قضية رواتب الموظفين واحدة من عشرات القضايا والخلافات الرئيسيّة بين هولير وبغداد، حيث يستخدمه الطرفان كورقةِ ضغطٍ سياسيّة ضد بعضهما البعض، إلا أنّ الضحايا الرئيسيين لهذا الصراع والتنافس السياسيّ بين بغداد والإقليم هم بلا شك موظفو ومواطنو الإقليم.
فجذور الخلاف تعود إلى السنوات الماضية، ولطالما شكّلت قضية إدارة النفط وواردات الإقليم نقطة خلاف أساسيّة بين الطرفين؛ فبغداد تطالب الإقليم بتسليم واردات النفط التي تُستخرج من أراضيه لتُدرج ضمن الميزانية العامة، في حين ترى هولير أن لها الحق الدستوريّ في إدارة مواردها بشكلٍ مستقلٍ في ظل غياب قانون نفط وغاز اتحاديّ ينظم العلاقة بين المركز والإقليم.
ففي عام 2014 قررت الحكومة العراقيّة برئاسة نوري المالكي حينها قطع ميزانية باشور كرد فعل على شروع الإقليم في تسويق نفطه بشكلٍ مستقلٍ ووفق اتفاق طويل الأمد مع تركيا، ومنذ ذلك الحين تطالب بغداد بتسليم النفط والإيرادات المحليّة مقابل إرسال الميزانية والرواتب، إلا أنّ الطرفين لم يلتزما بأيّ اتفاق حتى اليوم.
وفي عام 2022، تم توقيع اتفاق بين الإقليم والمركز لتسوية هذه الخلافات للسنوات 2023، 2024 و2025، يقضي بأن يسلم الإقليم نفطه لشركة “سومو” ويمنح 50% من إيراداته المحليّة لبغداد، مقابل حصوله على 12% من الموازنة الاتحاديّة لتلك الأعوام.
لكن رغم الاتفاق استمرت الخلافات إذ لم يسلم لإقليم النفط وباع بين 350 إلى 380 ألف برميل شهريّاً دون تحويل العائدات لوزارة الماليّة العراقيّة، بحسب ما تؤكده مصادر مقرّبة من بغداد ولا أحد يعلم مصير هذه الأموال، وحوّلت حكومة هولير الحد الأقصى من الإيرادات المحليّة إلى بغداد خلال تلك السنوات الثلاث، وهو 98 مليار دينار، ثم خفضت هذا المبلغ تدريجيًا إلى 51 مليار دينار، أرسلتها إلى بغداد الفترة الأخيرة.
حكومة بغداد تتذرع بحجة أنّ الإقليم لم يلتزم بالاتفاقيات وباع النفط بشكل مستقل دون مراقبة وبأن حكومة الإقليم لم ترسل ما تم الاتفاق عليه للمركز لذلك لم تُرسل الرواتب كاملة للإقليم خلال هذه السنوات الثلاث وكلا الطرفين لم يكن لديه الرغبة في فصل ملف الرواتب عن الخلافات السياسيّة والاقتصادية لأنّها متعلقة بقوت المواطنين ولا علاقة لها بالملفات الكبرى التي يتم الخلاف حولها.
أصواتٌ منددة دون جدوى
مؤخرًا عقدت بعض الأطراف الكرديّة لقاءات مع رئيس الوزراء العراقيّ محمد شياع السوداني في محاولة للتوصل إلى تفاهم، لكنها باءت بالفشل، حيث قال السوداني في اجتماع مع كتلة الاتحاد الوطنيّ الكردستانيّ “الإقليم يبيع النفط، ولا يسلّمه، ولا يوضح أين تذهب الإيرادات، ومع ذلك يطالبنا بالرواتب، ثم يهدد، ويوقّع اتفاقات نفطيّة دون علم بغداد”.
فالخلاف الحقيقيّ يتمحور حول آلية توزيع الثروات والتزامات الطرفين، إذ تتمسك الحكومة الاتحاديّة في بغداد، بموقفها الذي يربط تحويل الأموال إلى الإقليم بتسليم كامل إيرادات النفط من حقول الإقليم، فضلاً عن الجباية، والجمارك، والضرائب المحليّة، باعتبارها من موارد الدولة السياديّة التي يجب أن تدخل ضمن حسابات وزارة الماليّة.
وبموجب قانون الموازنة العامة الاتحاديّة للسنوات 2023–2025، خُصص لإقليم كردستان نسبة 12.67% من إجماليّ الإنفاق العام، مقابل التزامه بتسليم 400 ألف برميل نفط يوميّاً إلى شركة التسويق الوطنيّة “سومو” فضلاً عن تحويل الإيرادات غير النفطيّة، والتي تشمل الضرائب والجباية والرسوم الجمركية المحليّة.
تؤكد وزارة الماليّة الاتحاديّة، أنّ الإقليم لم يلتزم بهذه الضوابط، مشيرة إلى أنّ الإيرادات الكليّة التي حققها الإقليم منذ بداية عام 2023 حتى نيسان 2025 بلغت نحو 19.9 تريليون دينار، في حين لم يتم تسليم سوى 598.5 مليار دينار منها إلى الخزينة الاتحاديّة (الدولار = نحو 1310 دنانير).
في المقابل، تقول حكومة الإقليم إنها لم تتسلّم سوى 4.22 تريليونات دينار فقط من أصل 13.33 تريليون دينار مخصصة لرواتب الموظفين، أي ما يعادل 31% من مستحقاتها الماليّة، محذّرة من استخدام ملف الرواتب أداةً للضغط السياسيّ.
ورغم طرح العديد من الآليات بعضها تضمن شرطين أساسيين أولهما أن يُرسل التمويل بصيغة قرض وليس ضمن مستحقات الإقليم الماليّة الاعتياديّة، أما الشرط الثاني فيتمثل بتشكيل لجنة مشتركة بين بغداد وهولير، تتولى وضع حلول جذريّة لأزمة الرواتب المتراكمة منذ بداية عام 2025، على أن تُنجز هذه اللجنة تفاهمات واضحة قبل حلول عيد الأضحى وهذا ما لم يحصل بسبب تعنت كلا الطرفين.
فالعلاقة بين الإقليم والحكومة الاتحاديّة تعاني تباعداً سياسيّاً واضحاً لا يرتبط فقط بالملفات الإداريّة أو الماليّة، بل يمتد إلى توازنات داخليّة وإقليميّة تؤثر على صناعة القرار في بغداد وهولير وهذا التباعد بحسب خبراء لا يُعزى إلى أسباب ماليّة أو إداريّة فحسب، بل يرتبط بشكل مباشر بالمعادلاتِ السياسيّة والأمنية داخل العراق، وكذلك بالتحولات الإقليميّة التي تؤثر على القرار السياسيّ بين بغداد وهولير.
هذا ما ضيّق الآمال في إحداثِ أيّ خرق باتجاه تحسين العلاقات فلا أفقَ ولا تعويلَ على أيّ مفاوضاتٍ مع بغداد فغالباً ما تنتهي كلّ المحاولات المتكررة لحلّ الخلافات بأن تبقى حبراً على ورق من دون أيّ تطبيق فعليّ وذلك مرده الى تعاطي بغداد في خلافها مع الإقليم بعقليّة مركزيّة مفرطة وكأن الحكومة الاتحاديّة تتعامل مع محافظة وليست مع كيانٍ دستوريّ منظم وفقاً لما نصَّ عليه الدستور العراقيّ من الحقوق والصلاحيات المشتركة والخاصة، سواء للثروات النفطيّة أو للحكم المحليّ.
بغداد وهولير على مفترق طرق خطير
ورغم الدعوات المتكررة إلى ضرورة فتح قنواتِ حوارٍ جادة بين الطرفين، بعيداً عن الحسابات السياسيّة الضيّقة، من أجل ضمان عدم استخدام الرواتب وحقوق المواطنين كأدواتِ ضغطٍ إلا أنّ بغداد أبلغت هولير رفضها إرسال أيّ وفدٍ للتفاوضِ بشأن مستحقات رواتب موظفي الإقليم، ما لم يتم أولاً تسليم كامل الواردات الماليّة التي يجبيها الإقليم، سواء كانت من الموارد النفطيّة أو غير النفطيّة.
هذا الموقف بحسب مراقبين للشأن العراقيّ يعكس تصلّبَ موقفِ بغداد في ظلِّ استمرار الخلافات الهيكليّة حول آليات إدارة الموارد الماليّة بين الطرفين ويعرقل الوصول إلى حلول مستدامة تضمن العدالة الماليّة بين المركز والإقليم وتأتي هذه الخطوة في وقت حسّاس تمر به البلاد، حيث يعاني موظفو الإقليم من تأخرٍ مستمرٍ في صرفِ رواتبهم، ما فاقم الأوضاعَ الاقتصاديّة والمعيشيّة في مدن الإقليم.
حيث تتصاعد مخاوف من تفاقم الوضع المعيشيّ للموظفين في الإقليم، خصوصاً في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة والتراجع الاقتصاديّ الذي يضرب مناطق الإقليم بشكل ملحوظ علاوة على أنَّ استمرار هذا النهج من قبل أيّ من الطرفين سيزيد من تعقيد المشهدِ السياسيّ، ويهدد وحدةَ واستقرارَ البلادِ.
حكومة الإقليم بدورها عبّرت عن رفضها للآلية الحالية في إرسالِ الرواتب، معتبرةً أنّها غير مقبولة، ولن تستجدي الرواتب من بغداد مرة أخرى وهذا ما فتح التكهنات حول خيارات الإقليم الذي وقع في 19 من الشهر الماضي، مذكرتي تفاهم في مجال الطاقة مع شركتين أمريكيتين (HKN Energy وOnex Group) في واشنطن.
ومثل هذه الاتفاقيات والتصعيد في التصريحات أعتبر تلويحاً من الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ الحاكم بزعامة مسعود البارزاني، بالانسحاب من العملية السياسيّة بشكلٍ كاملٍ، بل حتى إعادة طرح ملف الاستفتاء، في محاولة للضغط على بغداد وحشد دعم دوليّ لحماية “الحقوق الدستوريّة” للإقليم.
فمن ضمن الخياراتِ يقول مراقبون إنّ الإقليم لديه علاقاتٌ واسعةٌ ومتينةٌ مع الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبيّ، والدول العربيّة، ودول مجلس التعاون الخليجيّ، وتركيا، وإيران، وكذلك مع الأمم المتحدة، وهذه القضية ربما ستذهب إلى التدويل، وستستخدم حكومة الإقليم شبكة علاقاتها في سبيل حلّ ومعالجة هذه الأمة. ومن هذا المنطلق سيكون لهذه المشكلة تبعاتٌ إن لم تعالج، وحلها بسيط يتلخص في وجود مسؤوليات وواجبات على الطرفين، لكن الإصرار على الخطأ هو المصيبة فالحكومة تتعامل مع الإقليم كخصم، وليس كشريك، وهذا يُعيد إلى الأذهان سلوكيات الأنظمة السابقة التي كانت ترى الكرد أقليّة يمكن الضغط عليها سياسيّاً واقتصاديّاً. فالشارع الكرديّ يؤكد أنه في حال استمرت هذه السياسة، فإنّها ستؤدي إلى إعادة النظر في شكلِ الشراكة، ليس من قبل حزب أو قيادة، بل من قبل الشارع نفسه، وعلى الحكومة أن تعيدَ النظرَ في قراراتها، ليس من مصلحة أحد أن تتدهور العلاقة بين هولير وبغداد لأنّها ستزعزع العلاقة بين الجانبينً.
سبل الحل والتفاهم
إنّ استمرار الأزمة قد يدفع القوى الكرديّة إلى مراجعة جذريّة لموقعها في الدولة، وصولًا إلى تلويح القيادة الكرديّة بخيار الانسحاب من العملية السياسيّة وتفعيل ملف الاستفتاء لأنّ المحاولات لاحتواء الأزمة باءت بالفشل، في ظل تجاهل متعمدٍ للاتفاقياتِ، واستمرار سياسة التجويع الممنهجة ضد شعب كردستان، وآن الأوان حسب ما يؤكده سياسيّون لإعادة النظر في المشاركة ضمن مفاصل الدولة والعمل بجدّيةٍ على طرق باب المجتمع الدوليّ لحلِّ الأزمةِ.
فما يجري من استخدام الرواتب ورقةَ ضغط سياسيّ هو نمط متكرر من الأزمات، يُزجّ فيه بحقوق المواطنين في الخلافات السياسيّة وبات من الضروري فصل الملفات الخدميّة والمعيشيّة عن الحسابات السياسيّة، لأنّ الاستمرار في هذا النهج يهدد الاستقرار الاجتماعيّ والاقتصاديّ.
ورغم أنّ رئيس الوزراء العراقيّ محمد شياع السوداني قطع الطريق أمام إمكانية حلحلة قضية الرواتب باعتماد أسلوب المناقلة الذي يقوم على تحويل دفعات ماليّة للإقليم تخصم لاحقاً من حصته من الموازنة إلا أنّ التضييق الماليّ على الإقليم لا يخدم الاستقرار والسلام في العراق حيث أنّ مسألة المستحقات الماليّة تتعلق بقوتِ الشعب ولا تمثل فضلاً من أحدٍ على آخر
وعلى الرغم من أنّ الدستور العراقيّ لعام 2005 حاول أن يؤسس لعلاقةٍ اتحاديّة واضحة بين الطرفين، إلا أنّ غموضَ بعض مواده، وضعف تنفيذها، وغياب الإرادة السياسيّة أحيانًا ساهم في تأجيجِ الخلافات بدلاً من حلها وكلا الطرفين يتعاطى مع هذا الملف بطريقة براغماتيّة صرفة دون النظر الى إرادة حقيقيّة في انهاء جذريّ لحالة التوتر هذه.
لذا فإنّ حلّ هذه التوترات لا يمكن أن يأتيَ من قرارات وقتيّة أو تفاهمات فرديّة، بل من مقاربة شاملة تعالج جذور الأزمة، وتبني علاقة دستوريّة قائمة على التفاهم والشفافيّة والعدالة وهذه المقاربة يمكن أن تبدأ من تفعيل الدستور وتفسيره بوضوح، فالكثير من الخلافات تعود إلى اختلاف التأويلات حول مواد دستوريّة مثل المادة 112 المتعلقة بإدارة الموارد النفطيّة.
فالإقليم يرى أنّه يملك الحق في إدارة موارده الطبيعيّة وتصدير نفطه بشكلٍ مستقلٍ، بينما تعد الحكومة الاتحاديّة أنّ هذه الموارد يجب أن تخضعَ لسلطة المركز هذا الخلاف لا يمكن حله إلا من خلال إصدار قانون نفط وغاز اتحاديّ طال انتظاره، يُحدد بوضوح آليات الإدارة والتصدير وتقاسم الإيرادات.
ويمكن أن يكون الحل الواقعيّ في تأسيس شركة وطنيّة مشتركة تشرف على عمليات التصدير من الإقليم، مع ضمان حقوقه الماليّة والإداريّة في إطار الدولة الاتحاديّة ولعل أولى الخطوات في هذا السياق أيضاً يكمن في إعادة تشكيل المحكمة الاتحاديّة العليا بطريقة تضمن استقلاليتها وقدرتها على الفصل في القضايا الخلافية بمهنيّة دستوريّة.
فحل التوترات بين هولير وبغداد ليس بالأمر السهل، لكنه أيضاً ليس مستحيلاً يتطلب فقط إرادة سياسيّة صادقة، ورؤية دستوريّة عادلة، واستعدادًا لتقديم التنازلات المتبادلة قائم على إعلاء المواطنة المتساوية في بلد تعدديّ مثل العراق، لأنّه لا يمكن لأيّ طرفٍ أن يستقرَ على حسابِ الآخر، بل في التفاهم وحده يكمن الاستقرار والأمان والازدهار.