د. يونس بهرام
أفرزت الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من عقد من الزمن نتائج كارثية على كافة الصعد، لكنّ أخطر تداعياتها تمثلت في الشرخ العميق الذي أصاب النسيج المجتمعي السوري، فقد تفككت الروابط الاجتماعية وتعمقت الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، ما شكّل بيئة خصبة لنمو الطائفية والقومية المتطرفة، وأدى إلى تفتيت الولاءات داخل المجتمع السوري بين دينية وعرقية وسياسية.
خلل بنيوي في التركيبة الاجتماعية
قبل الحرب، كانت سوريا تعاني بالفعل من تصدعات بنيوية في مجتمعها “ولو بشكل غير واضح”، لكنها كانت مكبوتة ضمن إطار قمعي فرضه النظام البعثي، أما اليوم، فقد انكشفت هذه التصدعات وبرزت إلى السطح بصورٍ أكثر عنفاً وحدّة. الصراعات السياسية والمسلحة لم تُنتج فقط دماراً عمرانياً، بل أنتجت أيضاً وعياً مشوهاً للهوية، أعاد الناس إلى التفكير بمنطق الطائفة والمذهب والقومية.
لا يزال جزء كبير من السوريين أسيرًا لفكرة “الأكثرية السنية” في مقابل “الأقلية العلوية”، بينما تُستبعد شعوب ومكونات أخرى كالكرد، والدروز، والآشوريين، من المشهد السياسي والاجتماعي وكأنهم غرباء في وطنهم، هذه التصنيفات لا تعبّر عن واقع سليم لمجتمع متنوع، بل تُعزز صورة الانقسام وتُعيق فرص التعايش الحقيقي.
خطر النمط الجديد: ما بعد البعث
الأخطر مما سبق أن النمط الذي يتشكّل اليوم في سوريا لم يعد فقط قائماً على أُسُس القومية العروبية التي هيمنت خلال حكم حزب البعث، بل بات يحمل طابعاً مركباً من الطائفية الدينية المغلّفة بالتشدد السياسي، ما يجعل النموذج الجديد أكثر خطورة، ليس فقط داخليًا بل حتى على المحيط الإقليمي. إذ أن هذا النموذج قد يُنتج قوى شبيهة بالمجموعات العابرة للحدود، تشكّل تهديدًا على المجتمعات المتعددة داخل وخارج سوريا.
الساحل السوري والعنصرية العمياء
الهجوم الأخير على الساحل السوري، وردود الفعل عليه، كشف عن حجم العنصرية المتجذرة. فقد ظهر خطاب كراهية واضح ضد الشعب العلوي، تزامن معه خطاب آخر موجّه ضد الكرد والدروز وغيرهم، خصوصاً على منابر وسائل التواصل الافتراضي، حيث يتم التحريض ضدهم علنًا، وهذا يُظهر مدى هشاشة مفهوم المواطنة، وكيف باتت الهويات الفرعية تُستخدم كأدوات في الصراع السياسي.
الإيغور.. قنبلة موقوتة داخل النسيج السوري
أحد أخطر التحولات يتمثل في القبول بتشكيل وحدات عسكرية من مسلحين أجانب، مثل فرقة “إرهابيي الإيغور”، داخل الأراضي السوريّة، هذا القرار لا يمكن فهمه كخيار سيادي محض، بل هو مؤشر على تداخل القرار العسكري السوري مع حسابات إقليمية ودولية. وجود هؤلاء المسلحين، الذين يحملون فكرًا جهاديًا عابرًا للحدود، يُهدد ليس فقط الاستقرار داخل سوريا، بل يُنذر بإعادة إنتاج سيناريوهات شبيهة بأفغانستان أو ليبيا. كما أن هؤلاء، هم جنود غرباء ويحملون بنادق الغرباء على أرض غير أرضهم، وهم في نظر غالبية السوريين من مختلف القوميات، غير مرحّب بهم، سواء كانوا ضمن فرق نظامية أم لا.
إقصاء الكُرد.. عودة إلى نهج الإلغاء
ما يتعرض له الكرد في سوريا من تهميش ممنهج وقتل وتشريد، يكشف عن سياسة إنكار مستمرة لحقوقهم التاريخية. ومن الواضح أن الفاعلين في المشهد العسكري والسياسي، وخصوصاً بعض المجموعات المسلحة، لا ينظرون للكرد كشعب وطني، بل كطرف خارجي أو حتى عدو داخلي. وهذا يهدد إمكانية بناء دولة سورية جامعة، تقوم على مفهوم المواطنة والمساواة.
نحو دولة بلا مرتزقة.. حماية الذات من الداخل
تحتاج سوريا اليوم إلى جيش وطني يعكس طيفها المجتمعي المتنوع، لا إلى ميليشيات مرتزقة تنتمي إلى أيديولوجيات عابرة للوطن، فالمجتمع السوري غني بأبنائه من الكرد والعرب والسريان وغيرهم، ممن يستطيعون حماية البلاد إن أُتيحت لهم الفرصة في ظل نظام عادل. بناء الجيش الوطني لا يعني فقط توحيد السلاح، بل توحيد الانتماء والولاء تحت راية وطنية واحدة، لا دينية ولا مذهبية ولا عرقية.
مستقبل سوريا مرهون بإعادة بناء مجتمعها، لا فقط عبر إعادة الإعمار المادي، بل عبر إعادة التأهيل الاجتماعي والفكري، بما يتجاوز منطق “الغلبة” الطائفية أو “الأكثرية” الدينية. لا بد من تأسيس عقد اجتماعي جديد، يقوم على المواطنة المتساوية، والحوار بين الشعوب، والاعتراف بالآخر كشريك، لا كخصم أو تهديد. استمرار الحرب النفسية والاجتماعية، وإن توقفت البنادق، يعني أن سوريا ستظل ساحة صراع مفتوحة، وقد تنفجر في أي لحظة، داخلياً أو عبر حدودها. فهل آن الأوان لقراءة الواقع بعيون وطن
ية، لا مذهبية ولا قومية؟