سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

سجالٌ حول سوريا والخطرُ التركيّ

تحقيق/ رامان آزاد –

شهدتِ السنةُ الثامنة للأزمةِ السوريّةِ متغيراتٍ دراماتيكيّةً على كل المستويات، ابتداءً من خرائط الميدان والقوى المسيطرة، وحتى العناوين العامة، ليكونَ الاحتلال التركيّ لمناطق سوريّة العنوان الأبرز، والذي يعكس بشكلٍ غير مباشر سياسات القوى الكبرى.
القطبان الدوليان تنافسٌ وتفاهمٌ
يختزلُ المشهدُ السوريّ كلّ معاني الصدامِ القائم في الساحتين الدوليّة والإقليميّة، وكلها تؤكدُ إنّ القضية ليست قضية خلافات يمكن حلّها بلقاءات ثنائيّة بين الرئيسين الأمريكيّ والروسيّ أو صيغ التعاون المشروطة بينهما، فالصدام واضحٌ وهو بين محورين وموقفين متناقضين في العلن.
تحتلُ الأزمة السوريّة موقعاً جوهريّاً في السياستين الأمريكيّة والروسيّة، وهي محلّ التنسيق والتنافس بآن واحدٍ، ولكلا القوتين العظميين وجودٌ فعليٌّ على الأرض، فيما تتموضع الأطرافُ المتصارعةُ وفقاً لعلاقتها بهما، وبذلك تختلفُ المشاريعُ المقترحةُ حلاً للأزمةِ. وإذا كانت أنقرة تشذّ عن باقي الأطراف بتموضعها في هوةِ التناقضِ الأمريكيّ الروسيّ وتتأرجح بينهما، إلا أنّها تميلَ حيثُ تتحققُ أجندتُها السياسيّةُ، التي تتضمنُ مشروعَ التوسّعِ بالمنطقةِ عبر تسخير قوى راديكاليّةٍ وأخرى خارجة عن القانون لمحاربة كرد سوريا.
تضمنت كلُّ اللقاءاتِ الأمريكيّةِ الروسيّةِ تفاهماتٍ تمظهرت على شكلٍ تفويضٍ أمريكيّ لروسيا. إذ؛ من غيرِ المتوقع أن تذهبَ المسألة إلى مواجهةٍ مباشرةٍ للقوتين في الميدانِ السوريّ، ومن جملة هذه التفاهماتِ تحديدُ انتشارِ الوجودِ العسكريّ الإيرانيّ وحزب الله وتحديداً جنوبَ سوريا، والتي مازالت هدفاً مباشراً للقصفِ الجويّ الإسرائيليّ، دون أن يكون ذلك موضع مساءلة، حتى عندما تسبّبت إسرائيلُ بإسقاطِ الإنذارِ المبكر الروسيّة إل-20؛ ما أدّى لتزويدِ سوريا بمنظومة الدفاع الجويّ إس-300. ولكن؛ إسرائيل تعاود من فترة لأخرى قصف المواقع الإيرانيّة في سوريا وآخرها في 19/1/2019.
إدلب والمعركة المؤجلة
استطاع الحلفُ الذي تقودُه روسيا أن يستعيدَ كثيراً من المناطق من قوى المعارضة المسلّحة والمجاميع الإرهابيّة وحشرِها تدريجيّاً في جغرافيا إدلب، وفقَ تفاهم ثلاثيّ أستانه الذي استطاعت موسكو من خلاله استيعابَ الدورِ التركيّ وتسخيرِه لصالحِ خطتِها بالاستفادةِ من أولى التجاربِ بإخلاءِ مدينة حلبِ من المسلّحين.
لم يكن تأجيل العملية العسكريّة في إدلب استيعاباً مجانياً روسيّاً لأنقرة وفق مقتضبات سوتشي، بل مشروطاً بإنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمقِ 15ــ20 كم وهو اختبار لصدق نوايا تركيا التي وقفت أمام مفترق لخيارين أحلاهما مرُّ وأردوغان ابتلع الطُّعم مرغماً، فتنفيذُ الاتفاقِ يعني خسارتَه أهم أوراق الاستثمار المتمثل بالإرهاب الذي كان على وشكِ إعلان إدلب دويلةً إسلاميّة، وبالتالي تعجيلُ خروجها من كامل الأرض السوريّة، أما في حال رفض الفصائل التي ترتبط بأنقرة تنفيذ مضمون الاتفاق؛ فهذا يعني البدء بالعملية العسكريّة مع افتراض مشاركة تركيّة فيها؛ ذلك لأنّه يُفترض أنَّ تركيا مُنحت مهلةَ شهر لإنجاز منطقةٍ منزوعةِ السلاح وخالية من الإرهاب، على أن يُجمعَ فيها السلاحُ الثقيل والمتوسط تمهيداً لضمّها إلى المسارِ السياسيّ. ولكنها؛ لم تكن جادة بتنفيذ الاتفاق لإدراكها أنَّ الحسمَ العسكريّ في إدلب سيعجّل النقاشَ حول مصير عفرين وباقي المناطق التي تحتلها، ولذلك راح أردوغان يثير زوبعة التهديد بالعدوان على شرق الفرات ويستجدي موافقة روسيّة بأيّ صيغةٍ كانت.
على الضفة الأخرى للأطلسي؛ ارتفعت حدّةِ الخطاب في واشنطن من أجل إدلب وكانت له أسبابٌ مختلفةٌ، إذ أنّ إنجاز معركة إدلب سيفتح مجال النقاش حول منطقة شرق الفرات مع الجانب الروسيّ، وواشنطن ليست في وارد هذا النقاش في المدى المنظور إلا بعد استكمال خروج القوات الإيرانيّة وحزب الله. ولعلها تتطلع لخروج الروسيّ نفسه.
حاولت أنقرة الاستفادةُ من الوقت والضمانات التي حصلت عليها من ألدِّ خصومها (موسكو وطهران) والتلاعب بشكلِ تنفيذ الاتفاق وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المرتزقة عبر نقلهم إلى مناطق أخرى، فكانتِ المعارك الشكليّة التي خاضتها هيئة تحرير الشام (النصرة) ضد لواء نور الدين الزنكي والتي انتهت بحلِّ اللواء نفسه وانتقال عناصره إلى عفرين ومن بعده حلَّت حركة أحرار الشام المؤلفة من 12 فصيلاً نفسها وذابت لينتقلَ بعض عناصرها إلى عفرين، ومع إعلان الجولاني استعداده للقتال إلى جانب القوات التركيّة شرق الفرات يتضح أنّ أنقرة ما زالت تمسكُ بقياد الفصائل المسلحة على اختلاف مسمياتها وأنّها أضحت الملاذَ الوحيد لهم.
سجال روسيّ أمريكيّ لاستدراج تركيا

خرج ترامب بتغريدة سحب القوات الأمريكيّة من سوريا ليخلط الأوراق لجهة حساسيّة التوقيت، وأضحى الموقف الأمريكيّ ضبابيّاً متردداً بين رغبتي البقاء المديد والانسحاب السريع، ومن ثم الانسحاب التدريجيّ والمشروط بدورٍ تركيّ وإقامةِ منطقةٍ آمنة لتتعرضَ قواتها لحادثين منفصلين يؤكدان استمرار التهديد الإرهابيّ، وأيضاً واشنطن ليست في عجلة من أمرها لبحث تفاهمات نهائيّة حول مجمل القضية السوريّة والمسألة عندها هي الوجود الإيرانيّ، وربما تتراجع عن بعض تصريحاتها الإيجابيّة لتعيد الملفات حيث تريد، وإدلب مثال واضح على ذلك وقبلها عفرين والباب وجرابلس.
عندما يرفع الأمريكيّون سقف بقائهم عالياً في شمال سوريا ما بعد الانتهاء من داعش، فهي رسائل ما فوق استراتيجيّة لتركيا الشريك في الناتو الذي ذهب بعيداً في التنسيق مع روسيا. ولكن؛ ما تريده موسكو هو أبعد من كل ما يبدو للعيان، فتركيا المصابة بالفوبيا لن تجرؤ على قتال الكرد في ظل ضبابيّة الرؤية، وليس أمامها إلا معبرٌ إلزاميّ والهرولة إلى موسكو والتغاضي وابتلاع كثيرٍ من الشعارات والمواقف السياسيّة ضد حكومة دمشق، بل وأبعد من ذلك بأن تبدي مزيداً من التعاون في استعادةِ الجيشِ السوريّ السيطرةَ على المناطقِ الواقعة تحت سيطرة المجاميع المسلّحة وإنجاز الفرز الافتراضيّ بين ما يسمّى “المعارضة المعتدلة” عن هيئة تحرير الشام وأمثالها من المجاميع المتشددة من الجنسيّة غير السوريّة، طمعاً بإدراجها تحت سقف مفاوضات أستانه وصولاً لتكون طرفاً في الحلّ.
بالمجمل؛ فأيٌّ كانتِ نتائج في إدلب فإنّها تصبُّ في مسار الخطة الروسيّة وتحضير المعركة فيها، والتي لا يبدو أنَّ موسكو مستعجلةٌ للبدءِ فيها ريثما تستكمل أنقرة إجراءاتِها لتسهّلَ المعركة للحدِّ الأقصى مقابل مزيدٍ من الضمانات؛ سواء شاركت فيها تركيا أم لا.
واشنطن تلعب على المسار نفسه وتقول علناً أنّها ستسمرُّ بدعم الكرد وقوات سوريا الديمقراطيّة وتشيد بمآثرهم، لفرض شروطها على أنقرة، وأردوغان يعلمُ جيداً أسلوب التموضع الأمريكيّ وسياسة المد والجزر، وحرص واشنطن على عدم منح إيران فرصة التمدد ليس في الجغرافيا السوريّة، بل في كامل المنطقة وحرمانها من فرصة إعلان النصر. ولذلك؛ ترفع واشنطن سقف التهديد بمواجهة إيران على كامل مساحة المنطقة.
تركيا مستنقع المنطقة الأخطر
عمليّاً من شأن المتغيراتِ الأخيرةِ كذوبان مجمل الفصائل المسلحة لصالح هيئة تحرير الشام واستمرار التهديد التركيّ والدعوة لإنشاء منطقة آمنة بعمق 30كم أن تفتحَ أقنية الحوار بين دمشق والإدارة الذاتيّة لإيجادِ صيغةٍ لمواجهةِ استمرار التعديات التركيّة على السيادة السوريّة ويفترض أن تكون دمشق الطرف المبادر باعتبارها تمثل الدولة السوريّة، على أن تلعب موسكو دوراً إيجابياً فيها لجهةِ تغيير موازيين القوى في الساحة السوريّة، وهو ما تحتسبُ له أنقرةُ، وتتقبل لأجله شروط موسكو واشتراكِها في خطتها. ولهذا؛ صعّد أردوغان خطابه السياسيّ باتجاه ليكون بصيغة التحريض ويُجري مقاربة مع شمال العراق ويقول بأنّ تركيا لن تسمح أن تتحول المنطقة الآمنة في سوريا إلى “مستنقع”.
في الواقع؛ تركيا بسياستها الحالية هي المستنقع الأخطر في منطقة الشرق الأوسط، فهي مولّدة الإرهابِ ومصدّرته وراعيته، وتمارسُ سياسةً مضمونها الإبادة والتطهير العرقيّ والتمييز العرقيّ والدينيّ المذهبيّ وهي حامية التكفيريين، كما أنّ تاريخها لا يختلف عن حاضرها، فالأتراك جاؤوا غزاة إلى المنطقة واستوطنوا فيها واتبعوا سياسة الاحتلال اعتباراً من إزاحة أقرانهم سلاجقة الروم والحرب ضد البيزنطيين والعرب والكرد والأرمن، ولم يسلم من شرورهم البشر والشجر والحجر. وتحوّلت المنطقةُ في ظلِّ حكومتهم إلى مستنقعٍ آسن للفساد والتخلف وزرعوا الأحقاد والكراهية، وتبنّوا سياسةَ الإفناء والإبادة وارتكبوا مجازر مروّعة تشهدُ على دمويتهم وهوسهم بالقتل، ومازال هذا شأنهم حتى اليوم وكلّ شعوب المنطقة مازالت تدفع ثمن غطرستهم وعنجهيتهم.
المشهد الحالي؛ يؤكّد أن تركيا استهلكتِ التفويض الذي مُنح لها، فشعوبُ المنطقة لن تقبل بعودة العثمانيّة، ولا الدولُ الكبرى تسمح أن يصل حجمُ الدورِ التركيّ إلى حدِّ منافستها وتجاوزها، وهي قضية وقت فقط لتلقى عواقبَ سياساتها، والتاريخ يذكر أنَّ الدولة العثمانيّة مرّت بمرحلةِ الرجلِ المريض، وكان بالإمكان إنهاؤها إلا أنّ الإرادة الغربيّة وقتها ارتأت إبقاءها وماطلت خشية الدخول في سجالٍ فيما بينها على ترِكتها.
تحريرُ عفرين أولوية المرحلة
منذ التموضع الروسيّ إزاء الأزمة في سوريا وقبل توجيهه الضربات الجويّة ضد المرتزقة بتاريخ 30/9/2015، كانتِ الإدارةُ الذاتيّة على ثقةٍ بأنّ كلّ جولةِ محادثاتٍ تجري وتكون روسيا طرفاً فيها وبخاصّةٍ مع تركيا بأنّ روسيا ستقدم مرغمةً على إنجاز صيغة مبادلةٍ غير مباشرة للمصالح مع الأمريكيّ عبر تركيا، وأكّدت الحوادث صوابيّة هذه القراءة. إذ؛ لا يسع موسكو أن تحلَّ كلّ التناقضات عسكريّاً، فهي في سياق إنجاز خطة تدخلها العسكريّ مرغمة للتفاهم مع أنقرة باعتبارها الطرف الوحيد الذي له اليد الطولى في إنجاز المفاوضات تفويضاً عن المرتزقة. وكان معلوماً أنّ أنقرة في هرولتها باتجاه موسكو ستُقبِل على تفاهماتٍ مهمةٍ وتتجاوز تحفظاتِها كلها ما دام الأمر يتعلقُ بالكرد، وأنّ المسألة مجرّد وقت.
حدس الإدارة الذاتيّة كان صحيحاً مع بدء العدوان التركيّ على عفرين، إذ انغلقت قناةُ التفاهم مع موسكو، وبالتالي بقي الأمريكيّ الطرف الأوحد الذي استمرَّ في تواصله رغم سلبيّة دوره إزاء العدوان التركيّ. إلا أنّ ذلك ترافق مع التوجّس من أيّ تفاهمٍ أمريكيّ مقبلٍ لاستعادةِ أنقرة ومنع مضيها في خطِ التقارب مع موسكو، فالشرق الأوسط بالنسبة للاعبين الكبار رقعة شطرنج يتحكمان بأحجارها والاختلاف هو بدور كلِّ حجر وأسلوب حركته والفوز باللعبة هو هاجس كلٍّ منهما.
ما يشغل الإدارة الذاتيّة، هي ما يجري في عفرين من حوادث وجرائم، ومواجهة التهديد بالعدوان على شرق الفراتِ لا تنتقص من أولوية تحرير عفرين، وتدرك الإدارة مفصليّة هذه المرحلة وحراجتها، مرحلة ما بعد داعش استراتيجيّاً، وتدرس آفاق العلاقة مع واشنطن وتجري عليها تقييمات خاصّة. إذ؛ لا سبيلَ للدخول في اختبارات كبيرةٍ دون ضماناتٍ، والدرسُ العفرينيّ بليغ ٌ جداً. وبهذا؛ فمن المهم تجنب السجالات الهامشيّة لئلا تستنزفَ القدرات المتاحة وتطيحَ بمكتسباتٍ كلفت غالياً. وإذا كانت المواجهة مع تركيا محتملة، فإنّه يمكن أخذ الموقفِ الروسيّ بالاعتبارِ، وهنا يأتي البحث عن ضمانات الاستمرار والمستقبل.
في الواقع هناك إشكاليّة كبيرة في فكِّ شيفرة التنافس الدوليّ في الشرق الأوسط، واعتماد خطة تدوير الزوايا. إذ؛ لا تكفي تجاربُ الماضي لفهمِ ما ستؤولُ إليه قضيةُ عفرين، فالتفاهمُ الروسيّ التركيّ اليوم ليس الأول، وقد سُبق بالتفاهمِ حول مسألة حلب، ويومها خاضت روسيا معركة استعادة تدمر على حسابِ ذلك التفاهم، فيما انهمك الأتراك بحساباتهم الواهية والتحضير للمعركة المفصليّة في حلب، وتكرر الأمر بريف دمشق والغوطة ودرعا.
بالمجمل يمكن القول إنّ الأزمة السوريّة بعناوينها وأهدافها قد انتهت، والقضية السوريّة تكادُ تنحصرُ بالاحتلالِ التركيّ ما يرتب على كلِّ السوريين مهمةَ المواجهة والتصدّي له للحفاظ على السيادة الوطنيّة، ولعل ذلك من شأنه أن يقودَ إلى طاولةِ الحوارِ الوطنيّ والتوافق حول حلٍّ وطنيّ من غير استيرادٍ أو إملاءٍ.