قامشلو/ دعاء يوسف ـ “منازلي عالم صغير لم تمسها حرب ولا تهجير، وذاكرة حية لمالكها فمن له منزل في الذاكرة والواقع في مكان ما سيعود إليه يوماً ما”، بهذه الجملة عبر المهجر “زهير رمضان”، الذي يصنع الخشب مجسمات مصغرة لبيوت لا يسكنها أحد، لكنها تحتضن أرواح كثيرة ضائعة، تبحث عن معنى الأمان والانتماء.
في غرفة صغيرة من مدرسة “حسين عبد الله” في حي الكورنيش بمدينة قامشلو، تنبض الحياة من جديد على يد رجل حمل معه من رماد الحرب فسحة أمل نحتها من الخشب، عوضاً عن تركه ينكسر تحت وطأة اللجوء والتهجير. زهير رمضان، رجل من الشهباء، هجّرته الحرب من تل حاصل، فانتقل إلى عفرين ثم إلى الشهباء، وأخيراً استقر في قامشلو، لاجئاً مثل كثيرين، ولكن مختلفاً في طريقته بمواجهة الغربة والضياع.
حرفة تملأ القلب أملاً
لم يستسلم، ولم يسمح للنكبات أن تنزع منه حسّه الإبداعي، فمنذ عام 2014، بدأ المهجر “زهير رمضان” صنع مجسمات خشبية لمنازل، هواية يسد بها فراغ الأيام القاسية، فقد بدأ بخطوات بسيطة، مستخدماً أعواداً من الخشب وأخرى من الورق، وأدواته لا تتعدى سكين مطبخ صغيرة وعود شعلة للصق الأجزاء ببعضها، ومع الوقت والعمل تحولت هذه الأعواد إلى منازل مصغرة تفيض بالدقة والحنين، كأنها تستحضر ذاكرة البيوت التي هدمتها الحرب.
وفي واحد من مجسماته، قضى شهرين من العمل المتواصل، مستخدماً أعواداً بطول لا يتجاوز خمسة سنتيمترات، وأحياناً ميليمي متر فقط، فلا يستخدم “رمضان” أدوات قياس احترافية، بل يعتمد على نظرته وخبرته في البناء، وهي مهنة مارسها سابقاً؛ ما أكسبته فهماً عميقاً بتفاصيل العمارة، ولكنه اختار الخشب بدلاً من الإسمنت، لأنه أبسط، وأكثر توافراً، وأقرب إلى الروح.
وخلال لقاء مع صحيفتنا “روناهي” تحدث رمضان عن حرفته: “إنني لا أعمل من أجل أن أبيع تحفي الفنية، ولكني أعمل من أجل أن أفرغ طاقتي بها، فكل بيت أصنعه هو بيت من ذاكرة قلبي”.
وتابع: “الحرب هدمت منازلنا، ولكنني لم أقبل العيش بلا منزل يؤويني فصرت أبنيه بيدي، ولو كان من خشب، فالمنزل مسكن الروح ولذلك تعلقت حرفتي في مجسمات المنازل الصغيرة”.
إمكانات قليلة ومعاني كبيرة
ويؤمن رمضان، أن لكل قطعة يصنعها قصة ورسالة: “الناس تراها مجرد مجسمات، لكنني أراها حياة ثانية، عالم صغير نظيف لم تمسه حرب ولا تهجير”.
وعن أدواته البسيطة: “لا أستخدم أدوات احترافية، لكن عيني صارت ميزاني، وخيالي هو المهندس، والعود الخشبي ليس مجرد قطعة، هو حجر أساس لبيت ممكن أن يخلق أملاً جديداً، وسكيني ربما تتعبني لأقطع بها هذه الأخشاب إلى أعواد صغيرة ومتساوية ومناسبة للصنع، ولكنني لم أجد شيئاً آخر يغنيني عنها”.
فرمضان لا يصنع مجسمات فقط، بل يعيد تشكيل الحياة نفسها، من قلب التهجير والشتات، ومن قلب حرب سرقت كل شيء، صنع لنفسه مساحة صغيرة لا تنتمي إلا للجمال، ليكون مثال حي على قدرة الإنسان على تحويل الألم إلى فن، والانكسار إلى إبداع. وبينما تهدم الحرب البيوت، يبني رمضان من الخشب بيوتاً جديدة، تحكي قصص الصمود، والحلم، والانتماء.
ولم يبع رمضان أي بيت لأحد لأنه يرى قيمتها معنوية أكثر من مادية: “أي شخص يجلب لي الخشب أصنع له منزل، لربما مجسم هذا المنزل لا يحميه من برد الشتاء ويكون ديكوراً صامتاً في غرفته ولكنه يبقى ذاكرة حية إن له منزلاً في مكان ما سيعود إليه يوماً ما”.
واختتم المهجر “زهير رمضان” حديثه: “أنا مهجر، ولكن فني لم يكن يوماً مهجراً، فقد رافقني أينما ذهبت”.