د. طه علي أحمد
منذ بدايات تشكّل الدولة الحديثة في سوريا، ظلّ العنصر العشائري في الجزيرة السورية حاضرًا بقوة، ليس فقط باعتباره امتدادًا لبُنى اجتماعية تقليدية، بل أيضًا كفاعل سياسي مرن يُعيد تشكيل ذاته ضمن التحوّلات المحلية والإقليمية، ويتفاعل مع المتغيرات الدولية.
الجزيرة السورية، التي تضم عدة مدن ومناطق بأريافها، تُعدّ الحاضنة للكيانات القبائلية في سوريا، مثل قبائل العكيدات، والبكارة، والجبور، وشمر، وطي، وغيرها من الكيانات التي لم تُنزع عنها صفة العصبية تمامًا، لكنها أيضًا لم تبق على هامش التاريخ، بل شاركت – بأشكال مختلفة – في تشكيل ملامح المجال السياسي والاجتماعي في المنطقة.
العشائر نظام اجتماعي مرن
العشائر في الجزيرة ليست مجرد تركيبة اجتماعية موروثة، بل نظام متكامل من العلاقات، يقوم على التضامن الداخلي، والاحتكام إلى العُرف، وضبط السلوك الفردي ضمن منطق الجماعة. ومع أن هذه البُنى واجهت تراجعات في مدن مثل الرقة، ودير الزور، منذ منتصف القرن العشرين، بفعل توسّع الدولة المركزية والمدّ الأيديولوجي البعثي، إلا أن الأطراف بقيت محتفظة بوزنها العشائري. ومع اندلاع الأزمة السورية عام 2011، أعادت العشائر تموضعها بشكل لافت، فبعضها انخرط في التشكيلات المعارضة، وبعضها تحالف مع النظام، بينما اختار بعضها الآخر الانتقال إلى صيغ أكثر مرونة، في “مجالس عشائرية” أو “قوى محلية” ذات طابع دفاعي أو إداري.
بعد ذلك أُفسِح المجال أمام القوى العشائرية للعودة كفاعلٍ سياسي سواء على التسلح أو بناء تحالفات جديدة عبر الهياكل الجديدة مثل “قوات سوريا الديمقراطية” التي دعمتها في الانخراط السياسي والأمني بتوزيع مناصب إدارية ومحلية ضمن مشروع تشاركي ارتكزت عليه الإدارة الذاتية. وكانت الحكومة السورية قد سعت لإعادة احتواء العشائر من خلال مجالس مصالحات وتعزيز الحضور الأمني عبر شخصيات عشائرية موالية، الأمر الذي لم يكتب له النجاح والاستمرار نتيجة للمقاربة السلطوية التي اعتمد عليها حزب البعث فضلا عن عدم جدية الحكومة في هذا الإطار إذ لم تكن هذه الخطوة مجرد مناورة أو “تكتيك” للتعامل مع التحديات التي تكانت توجه الحكومة، ولعل ما يؤكد على ذلك فشل صمود الحزب ليسقط في كانون الأول 2024 نتيجة لأسباب عديدة من بينها غياب الحاضنة المجتمعية التي تقودها الهياكل العشائرية.
العشيرة والمجتمع.. بين التقليد والحداثة
بينما يُنظر إلى العشيرة أحيانًا مُعطى تقليدياً غير قابل للتطوير، إلا أن بعض الدراسات تشير إلى أن العشيرة تؤدي أدوارًا اجتماعية فعالة، خاصة في فترات الانهيار المؤسسي، مثل حلّ النزاعات، وتقديم الدعم الاقتصادي، أو حتى حماية الممتلكات، كما أن بعض التجارب الأخيرة – مثل انخراط أبناء العشائر في الأحزاب، أو في مؤسسات الإدارة الذاتية – تؤكد أن البنية العشائرية ليست مغلقة، بل قابلة لإعادة التشكل والتطور.
هنا يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن للعشيرة أن تتحوّل إلى مكون مدني فاعل في سوريا المستقبل، أم أنها ستظل محكومة بدورة العصبية والانغلاق؟ الجواب لا يمكن حسمه بمعزل عن المسارات السياسية الكبرى، خاصة ما يتصل برؤى ومواقف الإدارة الذاتية ومستقبل التنسيق مع السلطة الحاكمة في دمشق، ومدى انفتاح الأخيرة على تطوير منظومة مجتمعية تشاركية لا تغفل التنوع الإثني وغيرها من الأبعاد الثقافية، بالإضافة إلى مستقبل الوجود الأمريكي وموقفه من هذه الإشكالية. لكن من المؤكد أن تجاهل الفاعل العشائري، أو التعامل معه أداة ظرفية فقط، هو خطأ استراتيجي، لأن العشائر في الجزيرة السورية ليست مجرد بقايا ماضٍ، بل أحد مكونات الحاضر، وأداة من أدوات إعادة التشكل الاجتماعي والسياسي في البلاد
مستقبل الدور العشائري
الأمر إذن يتطلب من المؤسسات الرسمية – وغير الرسمية – في الداخل السوري أن تدعم مقاربة تقوم على اعتبار أن العشائرية مكوّن اجتماعي متجذر يملك قدرة على الإدارة المحلية، وحل النزاعات، وتأمين الحماية المجتمعية. هذا يتطلب الاعتراف بخصوصيات العشائر، واحترام النظام القيمي الخاص بها مع تطويره، فضلا عن دمج الشخصيات العشائرية في المؤسسات المدنية، ودعم وسائل إعلامية ناطقة تعبر عن تنوع الرؤى، وفتح حوار ثقافي وديني واعيا لا يستفز العقائد بل يعيد انتاجها بمنطق التعددية، مع تبني مشاريع اقتصادية يمكن إدارتها من مجالس عشائرية بالتنسيق مع الإدارة؛ ما يعزز الشعور بالمسؤولية ويحد من التبعية.
أخيرا، يصعب تصور ذلك بعيدا عن السعي لترسيخ مبدأ اللامركزية في العلاقة مع العشائر بما يشكل نواة لتحول أوسع تترسخ بموجبه ثقافة اللامركزية في المجتمع، أملا في الارتقاء بالذهنية العشائرية نحو المزيد من الانفتاح والتحول نحو ثقافة المؤسسات المدنية التي تتجاوز الأطر والذهنية العشائرية التقليدية.