قامشلو/ ملاك علي – في لحظة غادرة، رحل الفنان الكردي الشاب جوان حسن، حاملًا معه صوتًا لطالما عبّر عن آلام عفرين وأحلامها، ومخلّفًا وراءه غصّة في قلب كل من عرفه، وخصوصًا أولئك الذين شاركوه المسيرة منذ بداياته، في هذا الصدد تُحكى تفاصيل هذا الفقد الكبير، ليس فقط من زاوية فنية، بل من خلال شهادات حيّة من أقرب الناس إليه، صديقه ورفيق دربه الفنان غسان علوش، الذي عرفه منذ البدايات، يتحدث عن مأساته بفقدان جوان، لا كفنان فقط بل كجزءٍ من روحه، وامتداد لذاكرة عفرين المحتلة.
وُلِد الفنان الكردي جوان حسن في مدينة عفرين عام 1980، ونشأ في بيئة ثقافية بسيطة حملت في طياتها حبّ الفن، والانتماء العميق للأرض والهوية. منذ سنواته الأولى، أبدى موهبة استثنائية في العزف والغناء، ما جعله واحدًا من أبرز الوجوه الفنية الشابة التي عبّرت عن الوجدان الكردي في المنطقة.
في يوم 12 أيار 2025، تلقّت الأوساط الفنية والشعبية نبأً صادماً، وفاة الفنان جوان حسن إثر حريقٍ مأساوي اندلع في مكان إقامته بمدينة عامودا، حيث كان يعيش منذ تهجيره من عفرين عام 2018 بعد الاحتلال التركي للمنطقة.
وبحسب البيان الرسمي الصادر عن هيئة الثقافة والفن في الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، فإن الحادث كان “عرضياً ومؤلماً، وأودى بحياة فنانٍ كرّس عمره لخدمة قضايا شعبه من خلال فنه، ولم يفتر يوماً عن حمل هموم عفرين في صوته وكلماته”.
برحيله المفاجئ والمؤلم، خطف الموت الفنان الكردي جوان حسن، أحد أبرز الأصوات الأصيلة التي مثّلت وجع عفرين وآمالها، وأحد أولئك الذين وهبوا حياتهم للفن دون أن يطلبوا مقابلاً، فجعل من صوته مرآةً للناس، ومن كلماته وجداناً حيّاً للهوية والمقاومة والثقافة الكردية.
وبهذا السياق تحدث أحد أصدقاء الراحل المقرّبين ورفقاء دربه الفني منذ أكثر من ربع قرن، الفنان غسان علوش، عن جوان حسن بشغف وحرقة: “عرفت جوان في عام 1998، حين كان لا يزال فتىً صغيراً يحمل في يديه آلة البزق، لكن كان واضحاً أن بداخله نهر من الإحساس، لم يكن الفن بالنسبة له هواية، بل كان طاقة روحيّة، كان يقول لي دائماً: أنا لا أعيش إلا بالفن، أشعر كأنني طائر في السماء عندما أعزف أو أغني”.
تعرّف الاثنان على بعضهما من خلال سلسلة حفلات جمعتهم في مناطق مختلفة، بلغات متعددة، وبقلبٍ واحد، يقول علوش “في كل مرة نُغني فيها سوياً، كنت أشعر أن بيننا رابطاً روحياً غير مألوف”، ويضيف: “كانت علاقتنا كأننا نعرف بعض منذ مئة سنة، وهذا هو سرّ الفن الحقيقي، أنه يجمع الناس على المحبة والمشاعر الصادقة دون حسابات أو مصالح”.
في عام 2018، ومع بداية التهجير من عفرين إلى منطقة الشهباء، كان الانكسار كبيراً، لكن رغم الألم، حافظ جوان حسن على روحه الفنية، في الوقت الذي ابتعد فيه كثيرون عن الفن بفعل الجراح والانكسارات.
يروي علوش: “أنا شخصياً ابتعدت عن الفن بعد التهجير لأسبابٍ خاصة”، لكن حسن لم يتوقف، بل كان يُلِحُّ عليّ باستمرار أن أعود، وكان يقول لي: “حسافة أن شخصاً مثلك يعتزل الفن يجب أن يكون على المسرح لا في الصالات وبين الجمهور”.
لم يكن حسن فناناً عادياً، بل كان حالة وجدانية تعكس نبض المدينة التي أحبها حتى الرمق الأخير، كل أغنية كان يغنيها، كانت عفرين حاضرة فيها، “كان دائماً يضع يده على صدره ويقول: عفرين هنا، عفرين في داخلي، وكان يغني من عمق الجرح، لا من أجل الشهرة، بل من أجل إيصال صوت مدينته وألم شعبه”، كما يقول علوش.
ويتابع: “جوان حسن لم يكن يُغنّي لمجرد الغناء، بل كان يتنبأ، وكأن لديه حاسة سادسة، في الكثير من أغانيه كان يقول: ازرعوا على قبري شجرة زيتون، ووزّعوا أوراق الزيتون في جنازتي، وكان يتحدث دوماً عن الموت وكأنه على علم أن رحيله سيأتي قبل أن تعود عفرين إلى حضن أهلها”.
رغم ما حمله من موهبة وعمق فني، لم يكن حسن يوماً متكبّراً، بل كان من أكثر الفنانين تواضعاً وقُرباً من الناس، يقول عنه علوش: “كان مع الأطفال طفلاً، ومع الكبار وقوراً، صديقاً للجميع، عاش فقيراً، ولم يخجل من فقره، بل كان يعتبره جزءاً من أصله، وكان دائماً يردّد: أنا فقير وهذا هو أصلي، ومن ينكر أصله لا أصل له”.
ويضيف: “رغم صغر سنه، فقد كان فعله كبيراً، كما يُقال في المثل، قدّم خلال حياته القصيرة ما لم يقدّمه كثيرون في أعمار مديدة، كان يُلحن، ويكتب، ويغني، ويعزف، ويعيش كل لحظة وكأنها فرصة لتوصيل رسالة”.
رحيل جوان حسن، الذي فارق الحياة محترقاً في حادثة مأساوية، خلّف ألماً كبيراً في قلوب محبيه وأصدقائه وزملائه، يقول علوش: “لساني عاجز عن التعبير، كل كلمة أقولها، لا تكفي لوصف ما نشعر به، جوان كان أخاً وصديقاً وفنانًا محترماً وإنساناً استثنائياً، فقدناه ونحن في أمسِّ الحاجة لصوته، لفنه، لروحه”.
واختتم غسان علوش حديثه بكلمات مؤثرة: “نطلب من الله أن يتقبله شهيدًا، وأن يكون مسكنه الجنة، وسيبقى صوته حياً بيننا، وستظل كل أغنية له تُذكّرنا بأن للفن رسالة، وأن عفرين ما زالت تنبض بروح أبنائها المخلصين”.