روناهي/ الرقة ـ لم تكن “زينب العلي”، (22 عاماً) تتوقع بأن لحظة واحدة داخل المطبخ ستترك أثراً لا يمحى على وجهها، فخلال محاولتها إشعال “الببور” في منزلها الواقع في ريف الرقة الجنوبي، انفجر بشكل مفاجئ، وانطلقت منه ألسنة اللهب طالت وجهها مباشرة.
ذات يوم وخلال محاولة “زينب” إشعال الببور في مطبخها بغية الطبخ لعائلتها، انفجر الببور فجأةً ليشعل لهيباً من النار كان كفيلاً بتشويه وجهها.
“شعرت أن النار تخترق قلبي قبل أن تحرق وجهها”
وخلال زيارة صحيفتنا “روناهي” قسم الحروق في مشفى الرقة، التقينا والدة زينب “فضة المحمد” (50 عاماً)، واقفة بجوار سرير ابنتها “زينب” في قسم الحروق بالمشفى الوطني بالرقة، وتحاول أن تخفي ارتجاف صوتها حين تتذكر اللحظة: “كنت خارج المنزل عندما سمعت صوتا غريباً، دخلت بسرعة، ورأيت النار تشتعل في وجهها وملابسها، كانت تصرخ، وأنا عاجزة عن فعل أي شيء، حينها صرخت أنا أيضاً، وطلبت المساعدة من الجيران، حيث نقلناها بالإسعاف بسرعة قصوى”.
من لهب الببور.. إلى برد العناية
وبينت فضة، إنها لم تتردد حين قررت أخذ ابنتها إلى دمشق، فقد ساد اعتقاد لدى العائلة أن المشافي الخاصة هناك أكثر قدرة على علاج إصابات من هذا النوع، لكن الواقع كان مختلفاً: “دفعنا مبالغ مالية ضخمة خلال يومين، ولم نحصل على العلاج المناسب، فكل شيء كان على حسابنا من الأدوية والتحاليل وغيره، ولم تلقى ابنتي أي تحسن، بل ازدادت حالتها سوءاً، وكان الألم لا يحتمل، فلم نلقَ خياراً سوى العودة إلى الرقة”.
استقبال مشفى الرقة للمرضى
وعن استقبال مشفى الرقة، تحدثت “فضة”: “استقبلونا بسرعة، وبدؤوا بعلاجها مباشرةً، لم يطلبوا منا أي مبلغ، كل شيء بشكل مجانٍ، حتى الضمادات المتقدمة والأدوية، شعرت أنني لست في مشفى، بل وسط عائلة تهتم بنا”.
وأشارت فضة: “في قسم الحروق، بدأت زينب تتلقى العلاج بجلسات متتالية، شملت التنظيف اليومي للحروق، التضميد، وأدوية السيطرة على الألم، إضافة إلى تدخلات ترميمية لاحقة”.
غرفة عمليات مجهزة
والتقينا رئيس قسم الجراحة التجميلية والترميمية في مشفى الرقة “لؤي محمد“، والذي أشار إلى التحول الجذري الذي أحدثه افتتاح قسم عمليات تجميلية خاصة بقسم الحروق: “قبل افتتاح القسم، كنا ننتظر أسبوعاً كاملاً لنتمكن من إجراء عملية واحدة، بسبب الضغط على غرف العمليات العامة”.
وتابع: “المرضى كانوا ينتظرون شهوراً، وبعضهم يضطر للسفر إلى مناطق أخرى رغم الظروف الصعبة. اليوم نحن نعمل بانتظام، ونجري ما يقارب من اثنتي عشرة عملية في الأسبوع”.
وأشار محمد، أنه تجرى العمليات بمساعدة الطبيبة “مزكين”، في فريق لا يتجاوز خمسة أشخاص، ومع ذلك، فإن التزام الفريق وتعاطفهم مع المرضى يجعل من القسم مركزاً حيوياً رغم تواضع الإمكانات: “الغرفة كانت ضرورة، وليست للرفاهية، فالحروق لا تحتمل التأجيل، خاصةً في الأيام الأولى، والتأخير كان يؤدي إلى تدهور الحالات، وظهور التهابات وتشوهات دائمة، واليوم نستطيع التحكم الكامل في الوقت وجودة العمليات”.
خدمات متقدمة رغم الموارد المحدودة
ولا يقتصر قسم الحروق على علاج الحروق فقط، بل يقدم خدمات متعددة تشمل “علاج الحروق في مراحلها الأولى، ترقيع الجلد باستخدام أنسجة ذاتية أو صناعية، وعلاج تقلصات ما بعد الشفاء، وتصحيح التشوهات الناتجة عن الحروق أو العيوب الخلقية، وإزالة أورام جلدية وسرطانات سطحية، وترميمات تجميلية غير ربحية، وتركز على الوظيفة والمظهر الإنساني”.
ويستقبل قسم المرضى الفئات العمرية كلها، وغالباً ما يشهد ازدحاماً في فصل الصيف، نتيجة ارتفاع عدد الحوادث المنزلية، وخاصة لدى الأطفال والنساء.
تحديات مستمرة
ورغم النجاح الذي حققه القسم، إلا أن التحديات لا تزال كبيرة “نعاني من نقص في بعض المستلزمات، كالشاشات عالية الجودة أو المواد الخاصة بالترقيع، وأحيانًا تأخر الأدوية، والدعم مطلوب، خاصة وأننا نقدم كل شيء مجانًا، والضغط يزداد كل يوم”.
كما أشار، إلى نقص التوعية المجتمعية بأهمية الإسعاف الأولي للحروق، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى وصول المصابين في حالات حرجة: “الكثيرون يضعون معجون الأسنان أو القهوة على الحروق، وهذا يؤدي إلى تفاقم الإصابة. لذا؛ نحتاج لحملات توعية في المدارس والقرى، فالحروق أكثر الإصابات شيوعا في مجتمعنا، وأكثرها خطورة إذا أُهملت”.
وجه زينب بعد العلاج
وبعد نحو شهر من بدء العلاج، خضعت “زينب” لعدة جلسات ترميمية، بدأت ملامحها تستعيد شيئاً من توازنها، فالمرآة كانت مصدر رعب لها في البداية، حيث قالت فضة: “اليوم أصبحت تنظر إليها دون خوف، تستعيد ثقتها تدريجيا، وهذا أهم من كل شيء”.
وأشارت والدة زينب “فضة المحمد”، في ختام حديثها، أنه على الرغم من أن المسار العلاجي لا يزال مستمراً، إلا أن الأم تبدي امتنانها العميق للفريق: “ما قدموه لابنتي أنقذها، وأنقذني معها. لم أكن أتصور أن مشفى حكومي قد يكون أكثر رحمة وفعالية من الخاص”.
يشار، أنه أُسِّس قسم الحروق في المشفى الوطني بالرقة أواخر عام 2019، ضمن مبادرة محلية لسد النقص الكبير في خدمات علاج الحروق، والتي كانت شبه معدومة في المدينة حينها، حيث بدأ القسم بإمكانات محدودة، وغرفة معالجة واحدة، وطاقم صغير من الأطباء والممرضين، وعلى مدار خمس سنوات، تطور بشكل تدريجي بفضل الجهود الذاتية، والتدريب المستمر، ودعم الجهات الصحية.
ورغم محدودية الموارد، يعد القسم اليوم مركزاً إنسانياً رئيسياً لعلاج الحروق في الرقة وريفها، ويقدم خدماته مجاناً للمصابين، في مدينة لا تزال تتعافى من آثار الحرب ونقص الرعاية الطبية.