محمد عيسى
في عالمٍ تُقاس فيه القوة والنفوذ بحجم الترسانة العسكريّة وعدد الطائرات والدبابات، سطّرت شعوب شمال وشرق سوريا ملحمة استثنائية لا شبيه لها. إذ شكّلت الكتل البشريّة من الرجال والنساء والشباب والأطفال سداً منيعاً أفشل محاولات جيش الاحتلال التركيّ ومرتزقته لاختراق سد تشرين وجسر قره قوزاق، لقطع شريان الحياة، وقالوا بصوت واحد علا صوت الرصاص: لا، لن تمروا إلا على أجسادنا، ومضوا صامدين متسلحين بالكرامة والإيمان بالحق، متجاوزين حدودَ المقاومة في أجساد حية تواجه السلاح، فكانت بحق ثورة شعبيّة خالصة، فتضافرت الجهود واجتمعت إرادة الكرد، والعرب، والسريان، والتركمان، والأرمن، لتخطّ قصة مقاومة لا تُنسى، ونصراً لا يُمحى.
سد الشهداء ليس ماءً فقط
سد تشرين أو سد الشهداء، ذاك العملاق الكامن على ضفاف نهر الفرات، لم يكن يوماً مجرد منشأة هندسيّة لتحويل المياه إلى كهرباء، أو ليروي عطش الحقول. فقد بُني ليكون نبض الحياة في شمال وشرق سوريا، وخزاناً للأمل، وجداراً يحمي الكرامة. يمتد تأثيره كالشريان النابض، يغذي منبج بنورها، ويسقي مقاطعة الفرات، ويمنح الطبقة قوتها، وتصل خيوطه إلى أطراف حلب. وإلى جانبه، يشمخ جسر قره قوزاق، أكثر من مجرد ممر، بل شريان استراتيجيّ حاسم على الطريق الدوليّ M4، يربط بين ضفتي الفرات، ويجسّد وحدة جغرافيّة أمنيّة واقتصاديّة لا يمكن لأي قوة أن تتجاهلها أو تهمّشها. من يضع يده عليهما، لا يمسك بالحجر والمعدن فقط، بل يضع يده على قلب الشمال السوريّ.
ومع سقوط نظام البعث في دمشق، أدركت الدولة التركيّة المحتلة أنّ مفاتيح الشمال لم تعد بيد الحكومات المركزيّة، بل باتت بأيدي الشعوب التي نظّمت نفسها، وكتبت عقدها الاجتماعيّ بإرادتها. ولهذا، رأت تركيا في لحظة فراغ السلطة فرصة لتوسيع احتلالها، فسعت للانقضاض على عقد التوازن الاستراتيجيّ. ومع صعود هيئة تحرير الشام إلى واجهة المشهد، شرعت الدولة التركيّة بإعادة رسم حدود أطماعها، وأطلقت يد مرتزقتها، فكان الهجوم على منبج في الثامن من كانون الأول 2024 بداية العدوان المباشر على إحدى أكثر النقاط حيوية في الجغرافيا السورية.
منذ ذلك اليوم، لم تهدأ السماء، ولم تنم المدافع. توالت الغارات، وانهمرت الصواريخ، من المدفعية إلى الطائرات الحربية، مروراً بالمسيّرات التي كانت تحوم فوق رؤوس المدنيين ليل نهار. جسر قره قوزاق بات هدفاً مباشراً، وسد تشرين تحوّل إلى ساحة صراع مفتوح، لا لشيء سوى لأنه يمنح الحياة. لم يكن القصف عشوائياً، بل منظّماً، دقيقاً، مدروساً بعناية عسكرية. كل ضربة كانت تقيس تأثيرها على الحياة اليومية: على شبكة الكهرباء، على أنابيب المياه، على حركة التجارة، وعلى وجوه الأطفال، وهم يدرسون على ضوء الشموع.
لكن وسط هذه العاصفة الحديدية، وفي قلب الليل المدلهم، ولدت نار أخرى… لم تكن ناراً من دخان وبارود، بل ناراً من ضياء الإرادة. هناك، على بوابة السد، بدأت مرحلة جديدة من التاريخ. أطلق عليها الناس “مناوبة سد تشرين”، لكنها لم تكن مجرد مناوبة، بل كانت مدرسة في المقاومة الشعبيّة، ودرساً في أن الأجساد يمكن أن تكون دروعاً إذا عزّ السلاح، وأن الإنسان هو الجدار الأول والأخير أمام آلة الحرب.
في أولى أيام المناوبة، لم يتردد الأهالي. بادروا من دون تردّد، نساءً ورجالاً، كباراً وصغاراً، للمبيت قرب السد، لحمايته بأجسادهم، بصوتهم، بعيونهم الساهرة، وبقلوبهم المشتعلة. لكن المفاجأة، التي أدهشت المراقبين، أن الطليعة الأولى لم تكن من الرجال، بل من النساء. نعم، كنّ نساء الفرات، من منبج إلى كوباني، من الرقة إلى الطبقة من الدرباسية إلى ديرك، أول من لبّوا النداء. أتت الأمهات حاملات خبز التنور، وأتت الشابات وهنّ يحملن دفاترهن الجامعية، وأتت الجدّات يرددن أغاني الفزعة من الذاكرة الشعبيّة. تجمعن عند بوابة السد، وقلن للعالم: “نحن هنا، لا نحمل سلاحاً، لكن نحمل الحياة، وسندافع عنها كما ندافع عن أطفالنا”.
في تلك اللحظة، أصبحت المناوبة أكثر من فعل احتجاجيّ. وتحوّلت إلى لوحة فسيفسائيّة تمثّل روح شمال وشرق سوريا، حيث تتشابك أيدي العرب والكرد والسريان والتركمان، رجالاً ونساء، جنوداً بلا سلاح، وعيونهم شاخصة نحو السد، وأرواحهم معلقة بين سماء الوطن وأرضه. سد تشرين لم يكن منشأة تقنيّة فحسب، بل ساحة تمثّل إرادة الشعوب. ومن مناوباته خرجت حكاية الثورة الشعبيّة في أبهى صورها.
النساء يكتبن ملحمة تشرين
في اليوم الأول من المناوبة، الثامن من كانون الثاني، قُصفت القافلة الأولى. كانت بين الشهداء عضوتا تجمع نساء زنوبيا زوزان حمو، وكرم أحمد الشهاب الحمد. وارتقى مع زوزان الشهداء: آزاد فرحان حسين، ومصطفى عبدي، وعثمان إبراهيم، وعلي عباس شاشو. ولم يخمد مشهد ارتقائهم روح المناوبة، ولم تخبُ شعلتها بل زادتها اضطراماً ووهجاً.
وفي 15 كانون الثاني، اُستُشهد المواطن أدهم مصطفى ويسو وزوجته هيزا جندي، ورونيز مصطفى محمد علي الطالبة الجامعيّة التي كانت تحلم بأن تصبح مهندسة، فأصبحت شهيدة القضية. في 18/1/2025 استشهدت منيجة حيدر، الرئيسة المشتركة لمكتب حزب الاتحاد الديمقراطي في قامشلو، لتثبت أن السياسة المقاومة لا تُمارَس من مكاتب مغلقة، بل من قلب الجبهات وارتقت معها المواطنة حزنة عبدي يوسف.
المرأة هنا لم تكن ضحية، بل قائدة. كانت الداعم والمنظم والمحرّك. قادت التوزيع اللوجستيّ، نظّمت الفعاليات الثقافية، وعملت في التوثيق الإعلاميّ، لتسجّل تفاصيل المقاومة بالصورة والكلمة. لكن؛ مشهد ارتقائهم لم يكن نهاية المناوبة، بل كان بداية الصفحة الأكثر إشراقاً منها. لم ينحسر زخم القوافل، ولم تخمدِ الأغاني، ولم يُطوَ العلمُ الذي كانت زوزان تحمله. بل على العكس، اشتعلت الروحُ في صدور الأهالي، وارتفعت رايات جديدة كتبت عليها أسماء الشهداء، وقررت النساء أن يقدن المناوبة بأنفسهن، دون تردد أو تراجع.
المرأة هنا لم تكن هامشاً، ولم تكن رقماً في قائمة الشهداء. كانت هي صانعة المشهد، قائدة المرحلة، ومهندسة الخطوة التالية. قادت توزيع المواد اللوجستيّة بدقة ومسؤوليّة، أشرفت على تنظيم الفعاليات الثقافيّة التي كانت تُقام كل ليلة حول السد، كي لا تُكسر الروح، وكي يبقى الأمل متقداً. عملت على التوثيق الإعلاميّ، تحمل الكاميرا بيد، وتربت على كتف طفل خائف باليد الأخرى. سجّلت تفاصيل كل لحظة، من الهتاف الأول، إلى دمعة أمٍّ تقرأ الفاتحة على شهيدها.
الإعلام… بين عيون الحقيقة وأفواه التضليل
لم تكن معركة سد تشرين محصورةً في جغرافيا السلاح والنار، بل امتدّ لهيبها إلى جبهات أخرى، أخطرها وأطولها مدى: جبهة الإعلام. هناك، في سماء الكلمات وصور الشاشات، دارت حرب سرديات لا تقلّ ضراوة عن القصف المدفعي والجوي. حاولت المنصات الإعلامية الموالية للاحتلال التركيّ، والمموّلة من غرف سوداء في أنقرة وإسطنبول، أن تعيد صياغة الرواية بما يخدم أطماعها. فصوّرت المناوبة السلميّة حول السد على أنها تمويه عسكريّ، ووصفت الأهالي العزّل الذين جاؤوا بأجسادهم ليحموه بـ”الإرهابيين”، في محاولة مكشوفة لتشويه النضال الشعبيّ وتحريف الحقيقة.
لكن وسط هذا الغبار الإعلاميّ، برز الإعلام الحر في شمال وشرق سوريا كالشعلةِ في العتمة، وكالسدّ نفسه في وجه الطوفان. لم يكن الإعلام هنا مهنةً تؤدى من خلف المكاتب أو على طاولات التحليل البارد، بل كان جسداً في الميدان، وصوتاً ينقل النبض لحظة بلحظة، وعيناً لا تغمض حتى في أحلك الليالي. الإعلاميون لم يكتفوا بالتغطية، بل كانوا جزءاً من المناوبة، يقفون في الصفوف الأولى، يرفعون الكاميرات لا لتوثيق الموت فقط، بل لإثبات أن الحياة ما زالت هنا، وأن الكرامة لها وجه، واسم، وصورة.
استشهد في تلك المعركة الإعلامية ثلاثة من أنبل فرسان الكلمة والصورة. الشهيد عكيد روج، الذي لم يكن مجرد مصوّر، بل كان ذاكرة السد وروحه، وثّق أغاني الأمهات، ودموع الآباء، ووجوه الأطفال وهم يلوّحون للكاميرا كأنهم يلوّحون للوطن كله. كان يلتقط تفاصيل لا تراها سوى عين المحبّ: يد امرأة تمسك بيد شهيدها، طفل يرسم السد على الرمل، وفي 15 شباط من العام الجاري، ارتقى عكيد شهيداً، وهو يحمل الكاميرا بيد، ويُسعف مصاباً باليد الأخرى، وكأنّ روحه اختارت أن تظل هناك، بين الصورة والبطولة.
واستهدفت طائرة مسيرة للاحتلال التركيّ في 19/12/2024م سيارة الإعلام على الطريق بين بلدة صرين والسد ما أدى لاستشهاد مراسلة وكالة أنباء هاوار جيهان بلكين والصحفيّ ناظم داشتان وكانا في طريقهما لمتابعة التغطية الإعلاميّة لمجريات الأحداث على السد. وأصيب السائق عزيز حج بوظان. كما أُصيب سبعة صحفيين آخرين، بعضهم بإصابات بالغة خلّفت إعاقات دائمة. ولم يغادروا مواقعهم، بل واصلوا التوثيق من كراسي متحركة أو بأطراف صناعيّة، لأنّهم آمنوا أن الكلمة الحرة لا تُقعد، وأنّ الصورة المقاومة لا تموت.
وبفضل ذلك الصوت الحر، ظلّت ذاكرة السد حية، وارتبطت المقاومة بصورتها النبيلة: وجوه تعبق بالتراب، وأصوات ترفض الانكسار.
مجازر وجراح
لم تكن المناوبة حول سد تشرين فعلاً احتجاجياً تقليدياً، بل تحوّلت إلى ملحمة شعبيّة بكل ما للكلمة من معنى. مع كل يوم جديد، كانت المجازر تُكتب بدماء الأبرياء، لكن المناوبة لم تتوقف، وكأن الشهداء كانوا يشعلون درب من خلفهم كي لا تظلم الطريق.
في ريف عين عيسى، كان يوم 8/12/2024 أسود في قرية “المستريحة”، واستشهد ثلاثة عشر مواطناً في لحظات معظمهم من النساء والأطفال بقصف لمدفعيّة جيش الاحتلال التركيّ. ثم “برخ بوطان”، مجزرة أخرى طالت عشرة من أفراد عائلة واحدة. الطائرات التركيّة لم تميّز بين هدف عسكري ومزرعة، بين نقطة إسعاف وخيمة أطفال. استُهدفت المراكز الصحية، دُمّرت سيارات الإسعاف، أُحرقت مخازن الطعام، وضُربت خزانات المياه، حتى باتت الحياة نفسها هدفاً مشروعاً في عُرف آلة الحرب التركيّة. وفي 15 كانون الثاني، اُستُشهد المسعف عمر حسن، الذي لم يكن يحمل إلا حقيبة إسعاف. وفي القصف الذي طال قافلة المدنيين في 17/1/2025 استشهد المسعف ماهر جعفر محميد.
في 18 كانون الثاني، ارتقى شهيداً الفنان المسرحي جمعة إبراهيم خليل، المعروف بلقب “بافي طيار”، الذي غادر الخشبة ليقف على خطوط التماس، مؤمناً بأن المقاومة أيضاً شكل من أشكال الفن. استشهد وهو يردد مقاطع من مسرحياته التي طالما ألهبت الوعي الشعبيّ. كما استُشهد الكابتن أكرم شيخوس حسين رخو، وكيفو عثمان عضو مجلس إدارة نادي الآسايش، والمواطنون مظفر رمضان، وعبد القادر إبراهيم، واكتمل المشهد: الفنان، السياسي، المقاتل، الفلاح، الرياضيّ… كل أطياف المجتمع امتزجت في لحن المقاومة.
وفي القصف الذي طال المدنيين في سد تشرين في 21 كانون الثاني، استشهدت المواطنة حزنة عبدي، ومحي الدين حسين عمر. وفي 22/1/2025 استشهد المواطن محمد شفيق إسماعيل.
ورغم هذا الجحيم، لم يتراجع الأهالي، بل ازدادت حلقات التناوب انتظاماً. كان المشهد يبدو وكأن شعباً بأكمله يعتصم بالحياة. وكل شيء كان منظماً بدقة مدهشة: كل مقاطعة لها يومها، كل حيّ له ساعته، كل مجموعة تعرف دورها، لا فوضى، لا ارتباك، فقط إرادة فولاذيّة صاغتها 118 يوماً من الصمود.
وفي الخامس من أيار 2025، بعد أربعة أشهر من الكرامة اليوميّة، أعلنت الإدارة الذاتيّة من على سطح سد تشرين، نهاية المناوبة. لم يكن إعلانَ انسحاب، بل بيان نصر. نصرٌ أُنجز بالدمع والدم، بالكلمة والصورة، بالخبز والماء.
118 يوماً حفرت في الوجدان الشعبيّ تاريخاً لا يُنسى. 118 يوماً من الغارات، ومن الشهداء، من الأمهات اللواتي بكين وأكملن التناوب، من الصحفيين الذين نزفوا ولم يسكتوا، من الأطفال الذين كبروا فجأة وهم يرسمون المقاومة بالألوان.
في الواقع لم يعد مسمى سد تشرين فقد سقط النظام وزالت معه رموزه، وأضحى الاسم سد الشهداء… شاهداً حيّاً على واحدة من أبهى لحظات الإرادة الجماعيّة في تاريخ المنطقة، وعنواناً لثورة المرأة، وصمود الصحافة الحرة، والتلاحم الذي لا يُقهر بين الشعوب، ولم يعد نقطة طبوغرافيّة على الخريطة، بل صار قلباً ينبض باسم الحياة.
سد الشهداء ليس مجرّد حجارة تراكمت، بل روحَ شعب، وذاكرة نضال، وسيبقى جيلاً بعد جيل، يروي قصته للذين لم يشهدوها: كيف يسطّر النصر دون سلاح، بل بامتلاك الحق، وكيف أن الكرامة لا تُطلب… بل تُنتزع، وكيف حمى السد البشريّ سدَّ الحياة والماء.