روناهي/ الرقة ـ تمر النسائم رقيقة في قلب سهلٍ أخضر، مزروعات من كل جانب، حيث تمر النسائم رقيقة، وتصافح وجوه الأهالي كأنها رسائل مطمئنة من السماء، تبدأ الحكاية هناك، في بلدة الكسرات بريف الرقة، حيث يعيش “موسى إسماعيل عباس”، رجلٌ في الخمسين من عمره، مزارعٌ من جيل الأرض، لا يقرأ الوقت من الساعة، بل من حركة الشمس فوق كتف البيادر، ومن خرير الماء في ساقية الحقل.
عند الصباح، يضع على رأسه عمامته البيضاء التي ابتلّت أطرافها من عرق يومٍ مشمس، ابتسم بطيبة لا تصطنع، وبدأ حديثه كأنّه يروي سيرة الأرض: “بنفيق قبل الشمس، الطير لسا ما غرد، بنصلّي الفجر، وبنشرب فنجان القهوة عالنار، ما في أحلى من ريحة القهوة وهي تطبخ عالمنقل”، قالها وهو يشير إلى ظل شجرة زيتون.
ويبدأ يومه برفقة ولديه، يتجهون إلى الأرض التي ورثها عن والده، والتي يصفها بأنها “أغلى من الذهب”، وفيها يزرعون كل ما يستهلكونه، ويبيعون الفائض في سوق الرقة، في هذا الوقت من السنة، كما تحدث موسى لصحيفتنا “روناهي”، تبدأ الخضروات الصيفية بالنمو، ويعمّ النشاط في الحقول:”هالوقت موسم الكوسا، والباذنجان، والباميّة، الأرض بتتزين بهالألوان، وكل شيء طازج، ريحته بتسبق شكله”، يضيف، بينما يملأ بيديه حفنة من التراب ويشمها كأنها طيب.
ثمار الصيف.. هدية الأرض
وخلال السير بين الخطوط المتناظرة من الخضار، كانت أشجار الدراق والعنب والرمان تقف شامخة عند حواف الأرض، كأنها تحرس هذه الوليمة الخضراء، تحدث “عباس” عن هذه الأشجار كأنها أصدقاء قدامى: “هالتينة بزرعتها بإيدي، كنت شاب صغير، واليوم بتعطيني ثمر أطيب من العسل.. كل ما قطفنا منها، منحس إنو في بركة، في رضا”.
وتابع حديثه عن موسم المشمش، الذي يبدأ هو الآخر في أواخر أيار، فيملأ السلال برائحته الزكية: “نعلّق المشمشات تحت الشمس، ونعمل قمر الدين.. والله ما في أطيب منو عالفطور”.
المرأة الريفية.. ركن الحياة
وفي خضم هذا الحراك الزراعي، لا تغيب يد المرأة عن المشهد، فقد أشار عباس إلى دور زوجته وأخواته اللواتي يقمن بترتيب المحاصيل وفرزها وتجهيز المؤونة: “النساء هون أمهات الأرض.. ما بيقصروا بشي، من الطهي للزرع، وحتى بالسوق بيوقفوا يبيعوا.. والشاي بعد العصر من إيديهن طيب طيب”، قالها بنبرة فخر”.
ولم تخلُ الجلسة من ذكر الجيل الجديد، فبينما كنا نستظل تحت عريشة عنب، مرّ طفلان يركضان بين الزرع. “أحفادي”، قال بابتسامة واسعة: “منعلمهن من هلا، كيف يحترموا الأرض، وكيف يسمعوا صوتها.. كل زرعة فيها درس، وكل غصن إلو حكاية”.
ورغم التغيرات الكثيرة التي مرّت بها المنطقة، من الحرب إلى الجفاف، إلا أن عباس يرى في الريف ملاذاً لا يشيخ. “الدنيا تغيّرت، بس الأرض بعدها أمّ.. وبتعطي، إذا عرفنا نحبها”.
ومع غروب الشمس، يعود “موسى إسماعيل عباس” إلى بيته الطيني، وهو يحمل بيده قفة مملوءة بخيرات يومه، عند الباب، استقبلته زوجته بحنانٍ تعبق فيه رائحة الطحين والنعناع. ريفيون نحن، نعم، لكننا أغنياء بما لا يُشترى.