نسرين شيخو
بعيداً عن صخب الحياة وزحمة الشدائد، وسط رشقات الرصاص والغارات التي تصطاد الأرواح البريئة في مكان لا يعرف العنف، يُصاغ الحب من قصص المقاومة في سبيل إبقاء الهوية حيّة بينما يتعرض لحرب الإبادة بلا رحمة، تظهر صورة تفوح منها رائحة الروح الحرة، والسلام، وحب الإنسانية والحياة، والضمير الحيّ، صورة لمقاتل سمح المحيّا يحمل جعبة على ظهره تحوي الكثير من المعدات التي يحتاج إليها في مسيرة البقاء أمام محاولات الفناء، وبداخلها قطة تحتمي بعيون مطمئنة وكأنها عثرت على الأمان بعد أن فقدها في الغابات المليئة بغموض الموت، كما تحمل الأم نجلها عندما يفقد القدرة على المشي بعد نشاطه المفرط، لتؤكد هذه الصورة مرة أخرى كم إن قلب كل ثائر كردي منتفض لأجل كردستان مليء بالرحمة والإنسانية، وكم إن الرفق بالحيوان لا ينقص من قيمة الإنسان بل يعظمها، وكم إن ريشة أعظم الفنانين والرسامين عاجزة عن نقل ملامح نادرة لا تجدها سوى في إنسانية الكرد، وكم إن أكثر المعزوفات الأكثر شهرة لا تضاهي نقطة في بحر هذه اللوحة الصامتة، الناطقة بمعنى الحب والحياة والوجود.
ولكم من الصعب والشيّق أن تبقي ضميرك حيّاً وأن تكون إنسانًا في عصر صيّر الإنسان حجراً قاسياً لا يمد يده للمصافحة حتى ما لم يكسب مقابل ذلك، وأما عني فلا تستهويني لوحات دافنشي، ولا بابلو، ولا حتى فينيست فان جوخ بقدر ما تستهويني مظاهر الرفق والرحمة التي أجدها في ملامح قوات الكريلا.
ويا لتعاسة البلدان والدول التي لا تسمع أصواتاً تصدرها أحذية المقاتلين أثناء تسلقهم الجبال وتجولهم بين وديان كردستان، والتي تشبه صوت الكمنجة في لحنها وهدوئها، التي تغيب عنها مظهر المقاتلات وثغرهن متبسم، وهنّ يخضن غمار الحرب بحرارة كما خلقن من النار والشمس ليعيدوا للحياة معناها، ويؤكد على هذه الحقيقة المؤرخ الألماني “فيلهلم كوهلر”، وذلك بقوله، “لا توجد امرأة في الشرق الأوسط تتمتع بالحرية أكثر من المرأة الكردية”، في كل خطوة لهم في كل إيماءة تُكتب فصول من التاريخ مختزلة بالألم والأمل، بصوت الروح والذاكرة التي ترفض فناء الكرد وتصر على بقاء الهوية حيّة.
حركة رفضت أن تُدفن القضية في قبر مستعمر استكثر حتى الهواء على الكرد، استغل منصبه ولجأ لعتاده والقوة العسكرية الصارمة لمحو شعبٍ لا ينطق سوى بالسلام والصدق من الخريطة الكونية وشرعن ذلك بأن الكرد دخلاء، وأنهم يشكلون تهديداً على مصيره ووجوده، لما كل هذا الخوف ما لم يكن هو الدخيل؟ إن كان فعلاً هو صاحب الأرض والحق؟ لماذا يصر على قطع أنفاس الشعب، يصادقون الجبال ويتجنبون خدش نملة لما كل حملات الإبادة العرقية والثقافية ضد شعب ممتد ومنغرس جذوره في قدم التاريخ، وهنا يتضح لنا كم إن مقولة الأديب الراحل والناقد موسى عنتر، “إن كانت لغتي الأم تهدد وجودك، فهذا يعني إنك بنيت دولتك فوق أرضي”، منطقية لا بل واقعية.
حركة لم تغمض عينيها، ولم تتجاهل ما تراها من حرب تُمارس بحق جغرافية وتاريخ شعبٍ تهويدته عشق الحياة والوجود والعيش بكرامة، يحتضن جذور الإنسانية، عندما كان العالم أجمع صامت لأن الضحية كردية، أُسِّست لتخليص هويةٍ من أنياب التاريخ لنفخ الروح في جسد يباد عندما يلتقط أول أنفاسه، إن لم يكن جسدياً ففكرياً وثقافياً على يد محتلي أرضه.
ومهما أطلنا في وصف هذه الحركة وحاولنا قوننتها ضمن الأبجديات واللغات فإننا لن نكون منصفين بحقها بل على العكس بذلك نرتكب جرم لا يغتفر، لأنها بوصلة النجاة ولأن ظهور مثل هذه الحركة السماوية في نقاوتها في مرحلةٍ يطعن فيه المحتل الخاصرة وينهش بأظفاره عنق الشعب ليقطع أوردته وشريانه النابض بالحياة والذي يؤمن ديمومته وسيرورته بمثابة معجزة إلهية، وعدا عن ذلك أي تعبير آخر في وصفها انتقاص من قدرها وخيانة بحقها. محتل ضخم في أنظار العالم قزم أمام إرادتهم وعشقهم لأرضهم، عاجز عن محو الحقيقة التاريخية بأن كردستان قادمة وواحدة وإن التقسيمات بفعل الحدود المصطنعة، وإن تصويبه لسهام التفرقة بين الكرد ستصيب عينه وتقتلعه، لأنهم ملتحمون كالتئام الظفر باللحم واكتساء الهيكل بالجسد والروح بالبدن، وإن تاريخ الحرية سيكتب بأحرف من عشقٍ ونارٍ ونور، فمن روج آفا وروجهلات إلى باكور وباشور كردستان؛ يتحد صوت سلاح الكردي على ذرا الجبال ليصرخ في وجه العالم أجمع بأن الوجود من حق شعب انتفض ومزق القبر، وإن صدى مقاومتهم وضحكاتهم باقية بين شقوق صخور الجبال، ووديانها وأنهارها إلى يوم الفناء.
