روناهي/ الرقة ـ في زوايا البيوت الرقاوية، وبين رائحة الطحين الممزوج بالماء على لهب الصاج، تُروى حكاية أكلة تراثية لا تزال حيّة في ذاكرة الأمهات والجدات، تُدعى “السيالة”، أكلة تنتمي لروح الأرض، وتلامس وجدان أهل الرقة الذين يحتفظون بها جزءاً من هويتهم الثقافية والمجتمعية.
في ريف الرقة الشرقي، وبين جدران طينية دافئة، تبدأ التحضيرات مع أول ساعات الصباح، تمزج امرأة من الحي الدقيق مع الماء، وتراقب بعينيها قوام العجينة، وتتلمسّها بأناملها، قبل أن تشرع بفردها على شكل رقائق رفيعة تخبز على صاج حار، تغمره رائحة الحطب المشتعل، ويقال: إن السيالة لا تكتمل إلا حين تعد على نار هادئة في فناء المنزل، وبين ضحكات الأطفال وصوت الأحاديث العائلية.
طريقة التحضير
السيالة، التي تشبه في شكلها الفطائر أو الرقاق، تقطع إلى شرائح تغمر غالباً بالسمن البلدي أو زيت الزيتون، ويُضاف إليها دبس التمر أو رشة سكر حسب الرغبة، هذا التباين بين المذاق الحلو والدسم يمنحها حضوراً محبباً على المائدة، خاصة في ليالي الشتاء الباردة، حين تلتف العائلة حول صينية السيالة لتتقاسم الدفء والطعام.
وفي السياق، قالت “أم خليل“، وهي مواطنة خمسينية من مدينة الرقة، لصحيفتنا “روناهي”: “السيالة مو بس أكلة، هي لحظة، هي حنين، لما نطبخها نحس حالنا رجعنا إلى أيام الطفولة، لما كانت أمي تجمعنا حواليها وتقول: هاه، لحّقوا السيالة سخنة!”
من ذاكرة الجدات إلى موائد الحاضر
وتوارثت النساء في الرقة هذا الطبق جيلاً بعد جيل، دون أن تنسى طقوسه أو تغيب نكهته، فالسيالة ليست وصفة مدونة في دفتر مطبخ، بل محفوظة في الذاكرة الجماعية، تتعلمها الفتيات من أمهاتهن في جلسات الغداء، وفي مواسم الحصاد، أو خلال التحضيرات للضيوف.
وفي مدينة تعرضت لحروب وتغيرات كثيرة، تبقى الأطباق التراثية مثل السيالة نقطة ثبات، وشاهداً على هوية لم تُمحَ. ففي الرقة، لا تعني “السيالة” مجرد طبق شهي، بل لحظة تواصل بين الماضي والحاضر، تربط بين رائحة الطحين، وحكايات الجدات، وضحكات الأحفاد.
وغالباً ما تعد السيالة في فصل الشتاء، حين تزداد الحاجة إلى الأطعمة الدسمة التي تمنح الجسم الطاقة والدفء. ولا تكتمل هذه الطقوس إلا بوجود الشاي المرّ بجانبها، وتبادل الأحاديث التي تمتد حتى المساء.
ورغم التغيرات الحديثة وتنوّع المأكولات، تحتفظ السيالة بمكانتها في قلب كل بيت رقاوي، وربما يكون سرّها في بساطتها، أو في طريقة تحضيرها اليدوية، أو في أنها تُحضّر على “الصاج”، ذلك الرمز الأصيل للمطبخ الشرقي.
وفي زمن تتغير فيه الوجبات وأساليب الطهو، ما زالت السيالة تحظى بمكانة خاصة في مناسبات عدة، وتقدّم رمزاً للضيافة البسيطة الأصيلة، بل أصبح البعض يقدمها في فعاليات تراثية ومهرجانات محلية لتعريف الأجيال الجديدة بها، وكأنها رسالة حب من
لماضي تكتب بلغة الطحين والسمن والدبس.