دلشاد مراد
لم يُخلق البشر عبثاً على هيئة أقوام وشعوب لكل منها ثقافتها ولغتها وكينونتها الخاصة بها، بل من أجل التعارف والتواصل والتعايش المشترك، وهو ما صرح به الخالق ذاته علناً. وإذا كان الأمر كذلك إذن؛ فما سرُّ كل ما يجري منذ بداية التاريخ الإنساني وحتى يومنا الحاضر من حروب وهجمات وغزوات وحملات الإبادة يقودها البشر ضدّ بشرٍ آخرين، حيث تتخللها ممارساتٌ مروعة بحق الإنسانية، من قتل ومذابح ومجازر جماعية ونهب وتدمير القرى والمدن والمقدسات والأوابد الحضارية والأثرية واغتصاب الكرامة الإنسانية والعبودية ولاسيما بحق المرأة؟!.
فهل يمكن اعتبار ذلك حالات انتقامية أم خوف على وجودهم ومستقبلهم أم أن اعتناقهم أفكاراً متطرفة وعنيفة، هو الذي يدفعهم لارتكاب مثل هذه الأفعال؟!!
على كل حال لا يمكن التبرير لأي قوم أو فئة بشرية بارتكاب التجاوزات الإنسانية بحق قوم أو فئة أخرى، لكن الأمر المؤكد في هذا السياق أن انعدام التواصل بين الأقوام والشعوب والمجتمعات هي المسبب الرئيسي لكل تلك التجاوزات، فالتعارف والتواصل الإنساني يُخلق حالة من الثقة المتبادلة، ويبعد الأفكار المتطرفة والعنيفة، ويرضي مصالح الأطراف بما يضمن حقوق وواجبات كل طرف أو قوم لآخر. وبالتالي أن هناك ضرورة حتمية للتعايش والتواصل الحضاري بين المجتمعات والثقافات المختلفة.
إن سياسة التفرقة وزرع بذور الفتن بين شعوب وطوائف منطقة الشرق الأوسط يُعمل عليها من قبل القوى العالمية المهيمنة وبعض الأنظمة الحاكمة في المنطقة، وهو ما يؤثر كثيراً على ديمغرافية وجغرافية والوجود الكياني للشعوب الأصيلة، ويشكل خطراً على التاريخ الثقافي والحضاري للمنطقة، وقد تسببت تلك السياسة خلال قرنين من الزمن في اندلاع حروباً طائفية أودت بحياة عشرات الآلاف من أبناء المنطقة، وعمقت الخلافات بين أبناء المذاهب والطوائف والقوميات في بلدان مثل لبنان والعراق واليمن وسوريا.
إن توجه فئات من القوميين الترك والفرس والعرب ــ سواء العلمانيون أو الدينيون ـنحو التطرف والمغالاة في أفكارهم وتصوراتهم القومية في سياق بناء حركاتهم التحررية وإدارة بلدانهم كان خطأ جسيماً، وهو فخ قاتل أوقعوا أنفسهم فيه، وهذا الكلام يمكننا إسقاطه على الحركات القومية الأخرى في المنطقة. إذ لا يمكن بناء كيانات وبلدان صافية العرق في الشرق الأوسط، كون هذه المنطقة تتمتع بالتنوع العرقي والطائفي الكبير، وبالتالي فإن مفتاح استقرار بلدان المنطقة ومنها “سوريا” هو في التشاركية الإدارية بغض النظر عن الصيغة المتفقة بين شعوب وطوائف ومكونات بلد أو منطقة ما (المركزية، واللامركزية، والإدارة الذاتية، والحكم الذاتي، والفيدرالية، والكونفدرالية). ما يهم هنا هو عدم اتباع العنف والاستبداد وفرض النظم الإدارية عنوةً على سكان ومكونات وشعوب المنطقة.
ولعل فشل النظم السابقة التي مرت على تاريخ سوريا (ومنها نظام حزب البعث…) يجعلنا نعيد النظر في مجمل الأيديولوجية القومية الأحادية، واستخلاص الدروس منها في سياق مساعي الحركات والتنظيمات العربية والكردية والسريانية لتحقيق أهدافها القومية ونهضتها الاجتماعية والثقافية.
وهذا تأكيد في الوقت ذاته أن مصير الشعوب والطوائف السورية مرتبطة ببعضها، ومتداخلة تاريخياً وجغرافياً واجتماعياً، ولذلك فإن التخلي عن فكرة المغالاة القومية والطائفية والدينية وإلغاء الآخر، والاعتراف بالتنوع القومي والديني واللغوي والفكري والثقافي مصدر غنى وقوة للحضارة الإنسانية، هو الطريق والسبيل لتحقيق الديمقراطية الحقيقية والنهضة الحضارية المبتغاة في سوريا ومجمل الشرق الأوسط.