برادوست ميتاني
بالرغم من توالي الحكومات الدخيلة على ديار الكرد وسعي الكثير منهم إلى القضاء على الوجود الكردي بأساليب شتى غير إنسانية ولكنهم لم يفلحوا بل حافظ الكرد على أصالتهم.
يرى في ذلك أ.سفرستيان في دائرة المعارف الإسلامية (1) أن الكرد لم يخضعوا للدول المتعاقبة قبل الإسلام وأنهم اكتسبوا الصفات الآرية كاملة أيام الأخمينيين.
لن أتناول هنا تاريخ أسلاف الكرد الذين عاشوا في سوريا قبل الإسلام كالخوريين والكاشيين والهيتيين والميتانيين والميديين لأنني سأخصص لهم أبحاثاً خاصة بل سأتناول هنا بعجالة الفترات التي تلتهم.
بعد انهيار الإمبراطورية الميتانية الخورية واحتلال الإمبراطورية الآشورية لدولتهم بالرغم من سياستهم القاسية إزاءهم، ولكنهم لن يتمكنوا من القضاء على خصوصيتهم إذ حافظت بعض المناطق والمدن في مختلف أرجاء الإمبراطورية المترامية الأطراف، ومن بينها المدن الميتانية على استقلالها الذاتي، مثل مملكة “تئيد” – حالياً تل أحمدي جنوب قامشلو – وكان لهذه المدن حظ موفور من الحكم الذاتي المحلي، إذ وجدت بعض الدويلات التي كان ملوكها يحملون أسماء حورية مؤكدة في عهد الملك تجلات بلاسر 1114- 1076 ق.م مثل كيلي تشوب بن كلي تشوب (2)، بل يقول في ذلك الأركولوجي جرنوت فيلهلم في كتابه “تاريخ الحوريين وحضارتهم”: بدراسة الكتابات في المواقع الأثرية في سوريا نجد أن اللغة السريانية غنية باللغة الخورية (الحورية) وتكاد تكون لهجتين في لغة واحدة.
تأثر الآراميون بالحضارة المادية للشعب الذي سكن بين ظهرانيه؛ أي الحضارة الخورية والميتانية، وقد انهارت هذه الممالك أيضاً على يد الإمبراطورية الآشورية عام 732 ق.م (3)
تعرضت سوريا إلى الغزوات الخارجية منها الإسكندر المقدوني وقائده سلوقس، وكان جل أحداثها تظهر في روج آفا وشمال سوريا لأنها ذات أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة، ولأنها بوابة لليونانيين ذات بعد جيوسياسي نحو الجنوب، وقد ترك وفاة الإسكندر المقدوني خلافات بين قواد جيشه وعلى أثرها انقسمت المنطقة.
إثر وفاة الإسكندر المقدوني عام 323 ق.م تحوّلت إمبراطورته المترامية الأطراف إلى ساحة حرب بين قادة جيشه، وأصبحت سوريا من نصيب قائده سلوقس الأول – نيكاتور – اعتباراً من عام 312 ق.م، الذي أسّس الدولة السلوقية التي تعرف أيضاً (بالمملكة السورية)، وعاصمتها أنطاكية، وقد سمحت هذه المملكة للعناصر الوطنية والمحلّية بممارسة شؤون حياتها الاعتيادية، ولغتها، وعاداتها، وطقوسها الدينية، حتى قضى عليها القائد الروماني بومبيوس عام 64 ق.م، الذي ضمّ سوريا إلى الدولة الرومانية، وأطلق عليها اسم ولاية سوريا (Provincia Syria)، وقد قسّم الرومان ولاية سوريا إلى ثلاث مناطق إدارية هي (السيراستيك Cyrrhestique نسبةً إلى مدينة سيرهوس Cyrrhis ” النبي هوري – شمال إعزاز “، وإفراتيزيا Euphratesia نسبةً إلى الفرات، وخالستيك Kalistik نسبةً إلى نهر الخاليس “القويق”، وكان الفيلق الروماني العاشر المسمى “فريتنسيس” يرابط في مدينة سيرهوس Cyrrhis)، وامتدت الولاية السورية من الفرات حتى مصر (4). ولتأكيد صلة اسم سوريا بأسلاف الكرد، وهو النبي هورو (خورو) في منطقة عفرين، هذا الاسم الذي تحول في حرف الهاء إلى (س) وصار سورو، علماً حتى اليوم يحدث في اللغة الكردية التحول بين هذين الحرفين مثل هامان وسامان (الصبر) وهودة وسودة (الفائدة) وبين الهند والسند وغيرها أسماء كثيرة.
بعد موت الإسكندر-كما أسلفنا آنفاً -اقتسم قادة جيشه الثلاثة إمبراطوريته فكانت بلاد الشام من نصيب سلوقس نيكاتور فقام بتغيير أسماء الكثير من المدن حلبا إلى بيروا، ومدينة خورو نبي هوري الحالية في جبل الكرد – عفرين إلى سيروس (5).
بعد ذلك احتل الرومان سوريا، ولكن، أ. بركات في المصدر الآنف الذكر (الكتاب) في ص/ 92/ يذكر لنا ملاحظة ملفتة عن الازدهار في تلك الفترة، أنه في فترة الرومان ساد النظام والسلم من 30 ق.م حتى 70م، وتم تصدي للهجمات الفرتية أي الفرثية من شمال سوريا وربطت شبكة من طرق المواصلات منها طريق حلب، الذي يمر من الحدود الجنوبية لمنطقة جبل الكرد وطريق آخر يصل هذا الطريق بمدينة سيروس –نبي هوري حالياً.
كما أن أ.بركات يورد في ص93 من المصدر ذاته، قول مسيو تشالنكو في كتابه القرى المنسية، إن سكان منطقة جبل الكرد – عفرين في الفترة الرومانية كانوا يعيشون من أشجار الزيتون بالدرجة الأولى ومن أشجار الكرمة بالدرجة الثانية، ولكثرة زراعة الكرمة راجت خمور جبل ليلون وخمور إنطاكية والمناطق التابعة لها عن جدارة في العالم. كانت إنطاكية وضواحيها والمناطق الجنوبية من جبل الكرد تعيش حالة الترف وكانت تقام في إنطاكية عاصمة شمال غرب سوريا القديمة الألعاب الأولمبية لمدة ثلاثين يوماً. وكذلك عن انتشار الزردشتية في روج آفا وشمال سوريا، يضيف أ. بركات في المصدر السابق الذكر ص94 “كانت الزردشتية إلى جانب الوثنية منتشرة وللزردشتية معابد في القسم الجنوبي الشرقي من جبل الكرد في منطقة جبل ليلون. ويقول في ص95 “خلال النصف الأخير من القرن الرابع الميلادي انتشر النساكون العموديون في سوريا عامة ومنطقة جبل الكرد خاصة أمثال المار مارون 350م. في هذه الفترة كان أغلب سكان منطقة جبل الكرد زردشتيون ووثنيون”.
وفي ص97 يقول: لقد وقع أكثر من 200 من راهبان وكهنة وشماسة وثيقة الطاعة وهم يرأسون أديرة وكنائس مختلفة من بقعة تمتد من منطقة قورش (كورش) النبي هوري حتى بلاد أفاميا.
لقد انتشرت المناسك والأبراج والأديرة في كل من منطقة جبل الكرد والمناطق المحيطة بها، وعلى مساحة واسعة تمتد من منبج وكورش شمالاً حتى الجبال اللبنانية جنوباً ومن البحر وجبال الأمانوس غرباً.
أما في ص98 يقول: “قسم الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الكبير عام 395م الحملة الرومانية إلى قسمين شرقي عاصمته أسيتانا وغربي عاصمته روما فدخل جبل الكرد تحت حكم القسم الشرقي. كما أن الإمبراطور أرقاديوس قسم سوريا إلى تسع ولايات وجعل القسم الشمالي منها إلى ثلاث ولايات هي إنطاكيا، وأفاميا، ومنبج فكانت منطقة قورش – جبل الكرد تابعة لولاية أنطاكيا وشبه مستقلة”.
يقول أ. قرمان أنه “عام 175 م نصب كاسيوس نفسه قيصراً على روما وكان محبوباً جداً من الشعب وينحدر من أسرة كانت تقيم في مدينة خوروس التابعة حالياً لناحية شرا في عفرين(6). إن قول أ. قرمان يعطينا معلومة قيمة ألا وهي أن ذلك القيصر من روجافا وأن انتماءه العرقي بحاجة إلى البحث، وفي كل الأحوال أنه سوري. بالإضافة إلى اسم خوروس هو وما زال كردياُ حيث أن خور يعني الشمس في اللغة الكردية والحرفان الواو والسين لاحقة تضاف إلى الأسماء في اللغة اليونانية والرومانية”.
الساسانيون الكرد في سوريا
تنتمي الأسرة إلى جدها “ساسان “بمعنى ملك الملوك من عشيرة شوانكارا الكردية الكبيرة والمعروفة حتى يومنا هذا بدءاً من روجهلات (شرق) كردستان المنتمية إلى الكرد الفيليين اللوريين، وهم الذين جعلوا الدين الزردشتي الديانة الرسمية للدولة، وكذلك الكتابة بالحروف البهلوية الكردية الأصيلة.
وكانت عاصمتهم مدينة مديان نسبة إلى أجدادهم الكرد الميديين، وقد أطلق المسلمون على اسم المدينة بعد سيطرتهم عليها اسم المدائن. لقد أخذت الحقائق عن التاريخ الكردي تظهر جلياً مع تفتح الذهن البحثي المختص والوجداني وكذلك مع تزايد البحث الكردي تم التأكيد على كردية الأسرة الساسانية. في ذلك يقول الطبري: إن الملك الأشكاني أردوان بعث رسالة إلى أردشير الساساني الذي قام بالثورة عليه: “لقد جلبت حتفك أيها الكردي، الذي تربى في خيم الكرد من أذن لك أن تضع التاج على رأسك (7). في ذلك إشارة إلى معنى اسم عشيرته شوانكارة أي الرعي. علما أن العائلة كانت قد تخلت عن الرعي والخيم وكانت قد صارت في مرتبة الموبدان كمهمة يقومون بها في الدين الزردشتي. كما أن أ. عبد الله قرمان (8) يقول، إن أردشير بن بابكان الساساني ينحدر من نسل “كي قباد” أي دياكو.
لقد حكم الساسانيون سوريا وبذلك أصبح الكرد سادة لها لقرون عدة من خلال تلك الدولة الساسانية. يقول في ذلك أ. محمد حرب فرزات (9): امتدت الدولة الساسانية من الشرق حتى أطراف الشام. بذلك وقع على عاتقهم مهمة الدفاع عنها في وجه الدخلاء خاصة خلال صراعهم مع الرومان وفي ص 142 من الكتاب ذاته يقول أ. فرزات: وصل شابور في حربه مع الرومان إلى أنطاكية محققاً النصر عليهم في معركة إديسا (الرها) عام 260 م.
لم يتمكن الرومان في حربهم مع الساسانيين من احتلال نسيبين (نصيبين) في الجزيرة السورية بالرغم من حصارها عام 360 م وكذلك من اقتحام مدينة بازبد جنوب جزيرة بوتان في أقصى شرقي الجزيرة السورية عام 363م. لقد حاولت في البحث عن موقع “بازبد” تلك أشار لي البعض بأنها تقع غربي مدينة ديركا حمكو. احتل الرومان مدينة داري على مقربة من مدينة عامودا الحالية – والتي يقال، إن المدينة أخذت اسمها من دار أي عامود – ولكن الملك الساساني خسرو برويز تمكن من طردهم منها عام 506م
وفي ص 143 يقول أ.فرزات في كتابه الآنف الذكر تمكن كسرى آنوشيروان من النصر على الروم البيزنطيين عام 540 م ودخول أنطاكيا على العاصي وفي ص 144 يقول، وصل خسرو الثاني كسرى برويز سوريا وفلسطين ودخل القدس سنة 611 م.
وفي تحرير الكرد الساسانيون سوريا كاملة من الرومان، يقول أ. قرمان: إن الملك الساساني نوشيروان 526-572 م حارب الإمبراطور الروماني جوستنيانوس واخضع غرب كردستان (روج آفا) حتى أنطاكية وسوريا لحكمه وأجبر الروم على توقيع معاهدة مذلة لهم (10).
ظل الساسانيون في الجبهة السورية مدافعين عنها ضد الرومان واستمرت حروب عديدة بينهم وبين الرومان أنهكت الطرفين والشعوب وبنتيجتها تحملت روج آفا خاصة وسوريا عامة أعباء ذلك، وعانت البلاد من ويلاتها إلى درجة الانهيار ومعدومة القوة. فمهد هذا الوضع المتململ المترهل لنجاح قدوم جيوش العرب ومواجهة خصم ضعيف في نشر الإسلام في المنطقة منها سوريا وكردستان عام 639م.
المصادر:
1–شاهنامة-ج1-ص9-شرفخان بدليسي
2-3ـ 4ـ مركز الفرات للدراسات فارس عثمان11/05/2018-الخميس 17 أبريل 2025
5-كتاب جبل الكرد –عفرين عبر العصور، أ مروان بركات –ص91
6-8ـ 10ـ أ.عبد الله قرمان في كتابه وطن الشمس –ج1-ص203، 207، 2011
7-الطبري في كتابه تاريخ الأمم والملوك.
9- محمد حرب فرزات في كتابه مدخل إلى تاريخ فارس القديم – ص 140.