الشدادي/ حسام الدخيل ـ لم يقتصر تأثير مشروع قرية قانا النموذجي، نحو أمن غذائي ومحلي مستدام، لتحدي الأزمات وخلق فرص العمل، على تحسين الإنتاج فحسب، بل تجاوزه إلى أثر اجتماعي واضح، وليصل نموذج قانا إلى أن يكون منارات يُحتذى بها في الريف السوري كله.
في قرية قانا الواقعة في ريف مدينة الحسكة جنوباً، انطلقت قبل نحو عامين خطوة زراعية غير مسبوقة قادها أبناء القرية أنفسهم، حينما قرروا الانتقال من أسلوب الري التقليدي المعتمد على الفيضانات ومياه الأنهار إلى نظام الري الحديث بالتنقيط، هذه المبادرة الذاتية لم تكن مجرد تغيير تقني، بل كانت بمثابة شرارة أعادت البسمة إلى حقول قانا التي شابها الجفاف والإهمال لعقود، وعادت تنبض بالحياة من جديد بمختلف أنواع الخضار، ما أسهم في تحقيق اكتفاء ذاتي وتوفير فرص عمل للمئات من العائلات.
البذرة الأولى.. تحدّي الجفاف والإهمال
عانت قانا لعقود من انقطاع شبه كامل للمياه نتيجة الجفاف بالإضافة إلى انخفاض منسوب المياه في سد الحسكة الجنوبي فضلاً عن انقطاع مياه نهر الخابور، وارتفاع تكاليف الوقود إلى جانب التغيرات المناخية التي زادت من ندرة الأمطار وشحَّ المياه السطحية، وأدّى ذلك إلى انحسار المساحات المزروعة، وانكفاء الفلاحين عن سقاية أراضيهم بالطرق التقليدية التي أصبحت مرهقة وغير مجدية اقتصادياً.
ومع تفاقم الأزمة، نفذ المهندس الزراعي “محمد علي”، مشاريع صغيرة جداً معتمدة على الطاقة الشمسية والري بالتنقيط، وقد اعتبر أن هذه العملية تمثّل الحلّ الأمثل لتقليل هدر المياه وضمان وصولها إلى جذور النباتات بشكلٍ مباشر، وبأقلّ كمية ممكنة من الطاقة المستخدمة. ونجحت تجربته وقام بتعميمها على المنطقة، وقد ساعد الفلاحين بتقديم التسهيلات والدعم التقني اللازم لاستصلاح أراضيهم.
ويقول المزارع علي الجاسم: “لم نعتمد على جهة حكومية أو منظمات دولية، بل كان الدافع الوحيد هو إنقاذ أراضينا من الجفاف، وكسر قيود الروتين الإداري الذي كان يُثقل كاهلنا. تعلمنا كثيراً أثناء التركيب، وأتقنّا صيانة المضخات وتحديد ضبط منسوب المياه في كل ثانيّة”.
عودة الخضار وأمن الغذاء
ارتفعت نسبة الأراضي المزروعة في القرية من أقلّ من خمسة عشر بالمئة عام 2022 إلى نحو ستين بالمئة حالياً، بعد أن أصبحت المياه المتوفرة ترشّد بدقة إلى جذور النباتات. وزُرِعت مساحات واسعة من الخسّ، والبندورة (الطماطم)، والفلفل الأخضر، والباذنجان، والكوسا، إلى جانب بعض المزروعات الموسمية والخضروات الورقية كالسبانخ والجرجير.
وصلت كمية الإنتاج الزراعي الشهرية إلى عشرات الأطنان من الخضار، يتم توريدها إلى أسواق مدينة الحسكة والأسواق القريبة في أريافها، ما أسهم في تخفيض الأسعار المحلية وتحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي الغذائي لأبناء القرية ومحيطها.
الأثر الاقتصادي والاجتماعي
لم يقتصر تأثير المشروع على تحسين الإنتاج فحسب، بل تجاوزه إلى أثر اجتماعي واضح. فقد توفرت المئات من فرص العمل الجديدة بين فنيي تركيب وصيانة منظومات الري، وعمال مزارع، وسائقي نقل الخضار إلى الأسواق، وبهذا زالت حالة الهجرة الجزئية إلى المدينة التي عانى منها الشباب الفلاّح طيلة السنوات الماضية. ويقول الشاب شاكر العايد: “العمل في مزارع قانا أعاد لي الأمل وكسر حاجز البطالة الذي عانيت منه بعد تخرجي من الثانوية. اليوم أعمل في تنظيم عمليات التعبئة والتغليف للخضار استعداداً للشحن إلى الأسواق، وبراتبي أساعد عائلتي في تغطية المصاريف اليومية”.
التحديات والعوائق
ورغم النجاحات الباهرة التي حققها المزارعون في قانا، إلا أنهم ما زالوا يواجهون عوائق تؤخّر توسع المشروع واستدامته، حيث يرى المزارع “عبد الكريم العلي” إن هناك الكثير من العوائق التي تواجه المزارعون وأبرزها:
ـ التكلفة المرتفعة للمشاريع: حيث يحتاج الحد الأدنى لتركيب منظومة ريّ بالتنقيط في مساحة واحدة تُقدر بنحو 0.5 هكتار، إلى استثمار لا يقل عن خمسة آلاف دولار أمريكي (ما يعادل نحو 55 مليون ليرة سوريّة بأسعار السوق الموازي)، وتشمل المضخات والخراطيم ومرشات المياه، بالإضافة إلى تكاليف التركيب والعمالة الفنية والبذور والأدوية، وهذه التكاليف تبقى عبئاً ثقيلاً على الفلاح.
ـ غياب الدعم المؤسسي: لم تبادر أي جهة حكومية أو هيئة الزراعة في المنطقة إلى دعم مزارعو قانا بمعدات أو دعم للمزارعين، كما لم تتدخل أي من المنظمات الدولية العاملة في مجال الزراعة لإسناد المشروع عبر منح مالية أو تقديم إرشادات تقنية متقدمة، رغم أن هذا الغياب يعرقل سرعة نمو المشروع ويحدّ من قدرة القرى المجاورة على الاستفادة من تجربتهم.
واختتم المزارع “عبد الكريم العلي” حديثه بالقول: “لقد أثبتت تجربة قانا كيف تتحول المبادرات الذاتية المنظمة إلى مشاريع تنموية قادرة على تحدّي الأزمات وخلق فرص عمل وتحقيق أمن غذائي جزئي. ولا يخفى أن الطريق ما زال طويلاً قبل الوصول إلى اكتفاء كامل، لكن الأمل معقود اليوم على الدعم المتبادل بين أبناء القرية والمؤسسات الرسمية والمجتمع المدني، ليصل نموذج قانا إلى أن يكون منارات يُحتذى بها في الريف السوري كله”.