قامشلو/ ملاك علي – ليست كل أم تُنجب قائداً، وليست كل أم تصنع من ابنها ثورة، لكن “الأم عويش” والدة القائد عبد الله أوجلان، فعلت الأمرين معاً، لم تكن أماً عاديّة، بل رمزاً خالداً للأم التي تزرع في ابنها منذ الطفولة حب الأرض، وتربّيه على الشجاعة والكرامة، حتى إذا كبر، صار مستعداً لأن يفدي وطنه بكل شيء، حتى بروحه.
وفي عمق كل ثورة، ووراء كل شهيد، وكل مقاتل، تقف امرأة عظيمة، “الأم” هي التي لم تحمل السلاح بيدها، لكنها حملت الهمّ في قلبها، وصاغت جيلاً لا يعرف الخضوع، هي التي زرعت في أولادها بذور الشجاعة، وحين أينعت، ودّعتهم للجبال لا بدموع الانكسار، بل بعينين يشعّ فيهما الفخر والعنفوان، من أمهات الكريلا إلى أمهات الشهداء، إلى رمز شامخ كـ “الأم عويش”، والدة القائد عبد الله أوجلان، نرى نموذجاً عظيماً لتضحية النساء في بناء جيل مقاوم، يضع الوطن في مقدمة حياته، ولا يخاف من التضحية في سبيله.
إن الأمهات الكرد، وعلى مدار عقود، واجهن الظلم، والفقر، والتهجير، والسجن، واستشهاد الأحبّة، لكنهن لم ينحنين، بل كنّ العمود الفقري لصمود المجتمع، ربّين أبناءهن لا ليبحثوا عن حياة رغيدة، بل ليبحثوا عن حرية شعب بأكمله.
في كل جبل يحتضن مقاوماً، هناك أم ودّعت ابنها بقبلة ودمعة، وفي قلبها يقين بالحرية القادمة، أمهات الكريلا لم تكن دموعهن علامة ضعف، بل كانت صلاةً من نوع آخر، وتعهداً باستمرار المسيرة.
كما أنهنّ من أعددن الطعام للمقاتلين، وخبأن السلاح في أركان البيت، واستقبلن خبر استشهاد أبنائهن بكلمات: “ابني لم يمت، بل صار نجماً في سماء كردستان”، هذه الأمهات، حين يخبرن أطفالهن عن الشهداء، لا يذكرنهم بالحزن فقط، بل بالفخر والكرامة، وكأن الشهادة وسام على جبين الأم قبل أن تكون على صدر الشهيد.
الأم عويش نموذج أصيل للأم الثورية
وفي قلب هذه الملحمة، تتربّع الأم عويش، والدة القائد عبد الله أوجلان، رمزا خالداً للمرأة، التي لم تحمل السلاح، لكنها أنجبت القائد، وزرعت فيه حب الوطن، والثقة بالنفس، وعدم الخوف من إعلان الهوية الكردية.
ولدت الأم “عويش أوجلان” عام 1918، في حي إيريه ببلدة خلفتلي في باكور كردستان، في زمنٍ كانت فيه المرأة الكردية تعيش في ظل قمع سياسي واجتماعي مضاعف، لكنها تحدّت الواقع بوعيها الفطري، وربّت أبناءها على الصدق، والكرامة، وحبّ الحق، ورغم قسوة الحياة، لم تُظهر الضعف، في كل موقف، كانت تُشجّع على الصبر والثبات، وغرست في القائد عبد الله أوجلان معاني الكبرياء، والتمسك بالهوية، ورفض الذلّ.
عاشت الأم عويش في بيئة قروية بسيطة، ولكنها كانت مليئة بالتحديات السياسية والاجتماعية، كانت امرأةً قوية، شجاعة، ربّت أبناءها على قيم العزة، والكرامة، والاعتماد على النفس، وكان لذلك بالغ الأثر في تكوين شخصية القائد عبد الله أوجلان حيث ذكر في أقواله:” لقد أخذت من أمي صلابتها لأنها كانت امرأة قوية وصبورة”.
كما أنها لم تكن فقط أمّاً، بل كانت رمزاً للمرأة الكردية المقاومة بصبرها ومواقفها الحكيمة، كانت قدوةً للنساء في محيطها، ومصدر إلهام لكل من عرفها، عايشت قسوة الحياة تحت الظلم، لكنها لم تنكسر، بل شكّلت مثالاً يُحتذى به في القوة، والكرامة، والبصيرة، ورغم بساطة حياتها، كانت تتحلى بوعي فطري، ورؤية إنسانية عميقة، تأثيرها لم يقتصر على أسرتها فقط، بل امتد لكل من اقترب من فكر القائد عبد الله أوجلان ونهج حرية المرأة والمجتمع الديمقراطي.
توفيت الأم عويش عام 1993، لكنها بقيت في الذاكرة المجتمعية للشعب الكردي، والأحرار في العالم، وفي كل عام، يُستذكر اسمها رمزاً للأم الصابرة، والمرأة التي أنجبت روح الثورة، واحتضنت في قلبها حلم الحرية.
وفي بعض كلمات القائد عبد الله أوجلان عن أمه نرى تأثيرها الكبير، حيث يقول:” أمي لم تكن تقرأ الكتب، لكنها كانت تفهم الحياة جيداً، علّمتني معنى الكرامة، ومعنى أن تعيش حراً حتى لو كنت فقيراً”، وقال أيضاً عن والدته: “حينما كنت صغيراً، كانت أمي تقول لي لا تخف من قول الحقيقة، حتى لو وقفتَ وحدك، هذه الكلمات ظلت ترنّ في أذني طوال حياتي”. وبهذه القيم، أصبح عبد الله أوجلان القائد الذي ألهم الملايين، وصار فكرُهُ منارةً للمقاومة، وكان ذلك، بشكل عميق، بفضل أمٍّ زرعت في قلبه القوة، لا بالكلام، بل بالمواقف اليومية، والصبر الطويل، والحب الغير مشروط.
في النهاية، لا يمكن فهم ثورات الشعوب دون أن نمرّ بقلوب الأمهات، هؤلاء النساء اللاتي لم يُدرّسن في الجامعات، لكنهن علّمن أبناءهن معنى الكرامة، والصدق، والقوة، وحبّ الوطن، من الأم عويش إلى أمهات الشهداء في كل بقعة من كردستان، نستلهم دروساً في البطولة والإنسانية، حيث أنهنّ الجذور الراسخة في الأرض، وأغصان الشجرة الثورية التي لا تنكسر، وفي كل مرة يرتفع فيها علم، أو تُشعل شمعة على قبر شهيد، تكون يد الأم حاضرة، صامتة ولكن قوية، تقول لكل من يسمع: “لقد ربّيته ليكون حرّاً، فمضى ليحرّر شعبه”.