قامشلو/ دعاء يوسف – يُعد الصوم الكبير من أهم الطقوس الدينية في التقويم المسيحي، حيث يستعد المسيحيون لاستقبال عيد الفصح في الصيام، والصلاة، وأعمال الخير، في إطار رحلة روحانية تهدف إلى التأمل والتجدد، وقد بينت السريانيات، أن الصيام يحمل العديد من المعاني الروحي من تهذيب للنفس، والابتعاد عن الشهوات.
يعد الصوم الكبير، أكبر وأطول صيام، حيث تعادل مدته خمسة وخمسين يومًا، وقد قللت الكنيسة الصوم إلى 40 يوماً أو صوم الأسبوع الأول، والأخير لمن لم يكن له القدرة على الصيام، لأن المسيح قد صام فيه، ويحمل في أيامه تذكارات تتزامن مع آلامه المقدسة، وتهتم الكنيسة بهذا الصيام، فله ألحان وطقوس خاصة تستمر طوال فترة الصيام، كما أنه تُقرأ فيه قراءات من العهد القديم، ويكون له جو روحي خاص.
وتختلف بداية الصوم بين الكنائس، ففي الكنائس الغربية بدأ الأربعاء الخامس من آذار المنصرم، بينما انطلق في الكنائس الشرقية يوم الثالث من آذار، والصوم الكبير أربعين يوماً، وهو عدد مستوحى من الأيام التي قضاها المسيح في الصحراء صائماً ومتأملاً، ويُحسب الصيام ابتداءً من أربعاء الرماد، وحتى خميس العهد، الذي يوافق 17 نيسان من هذا العام.
وقد جعلت الكنيسة له أسبوعًا تمهيديًا يسبقه، حتى لا يدخل الناس إلى الأربعين المقدسة مباشرة دون استعداد، وإنما هذا الأسبوع السابق، يمهد الناس للدخول في هذا الصوم المقدس. ومهدت له أيضاً بصوم نينوى، الذي يسبق الصوم الكبير بأسبوعين، ويكون بالطقوس بالألحان نفسها، حتى يتنبه الناس لقدوم الصوم الكبير ويستعدون له بالتوبة التي هي جوهر صوم نينوى.
آحاد الصوم الكبير
وتبدأ الآحاد بأحد الرفاع، والرفاع معناه الترفع عن الشهوات الجسدية، والكنيسة في هذا الأحد تعلمهم أن كلمة رفاع تعني رفع أو إبعاد الأطعمة المفطرة عن البيوت استعدادًا للصوم، وتعطيهم أركان العبادة من الصدقة (العطاء) والصلاة والصوم، لأن المؤمن مقبل على فترة عبادة هامة فالكنيسة توضح له في إنجيل أحد الرفاع أركان العبادة المقبولة وشروطها.
ويبدأ الصوم من أحد الكنوز، وسمي كذلك لأن السيد المسيح قال فيه: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس، والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل أكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوس، ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون”، وشجع على العطاء والرأفة بالفقراء.
والأحد الثاني، هو أحد التجربة والنصرة، وتقوم الكنيسة بوصف تجارب إبليس الثلاث “شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة”، والتي انتصر السيد المسيح فيها كلها، وأول خطوات النصرة هي النصرة على النفس والجسد وقمعهما وكبح شهواتهما، وتدور قراءات هذا اليوم عن النصرة في التجارب.
أما الأحد الثالث، هو أحد الابن الضال، وتدور فصول هذا اليوم على التوبة، إذ تقدم الكنيسة نموذجًا عظيمًا للتوبة، وهو الابن الضال الذي لما أطاع أفكاره واتبع مشورة الشيطان، ليعيش حياة الذل من جوع وعرى وغربة، وعندما راجع نفسه قرر العودة إلى أبيه وتقديم توبة صادقة، واعترف أمام أبيه بخطيته فقبله أبوه فرحًا وأقام وليمة عظيمة.
والأحد الرابع “أحد السامرية أو أحد النصف”، ويسمى أيضًا أحد الارتواء بالإنجيل، فكما قدمت الكنيسة في الأحد الثالث نموذجًا رجالياً للتوبة تقدم في هذا الأحد نموذجاً نسائياً للتوبة، التي هي أم الحياة، وبعد التوبة يجب على المؤمن التائب أن يرتوي من الإنجيل ماء الحياة ويتسلح به خوذة الخلاص وسيف الروح حتى يضمن دوام التوبة والنصرة الدائمة على الشيطان الذي يحاول أن يسقط البشرية في الخطية بعد كل مرة يتوب فيها ويرجع إلى الله.
فيما تدور قراءات أحد المخلع، أو أحد التشدد بالإنجيل أي كلمة الله (الأحد الخامس) حول تشديد وتدعيم الإنجيل للمؤمن، إذ تتلو الكنيسة إنجيل المخلع الذي يرمز للخاطئ الذي هدت قواه الخطية وشلت حركته وجعلته يرقد بلا إرادة ولا حراك، وكيف تشدد المخلع بإطاعته لكلمة المسيح، وهكذا يمكن أن يتشدد ويُدعم الخاطئ حينما يستمع إلى كلمة الله ويحاول أن يطيعها ويعمل بها.
أما أحد ما قبل الأخير، يسمى أحد التناصير أو أحد الاستنارة بالإنجيل، وسميت بذلك لأن الكنيسة اعتادت منذ القديم أن تعمد فيه الموعوظين الداخلين إلى الإيمان وما زالت هذه العادة جارية إذ يفضل الكثيرون من المؤمنين عماد أبنائهم في أحد التناصير، ولأن المعمودية استنارة روحية، ولأن فيه نال الأعمى الاستنارة لعينيه.
والأحد الأخير من الصوم هو أحد الشعانين، وفيه تذكار دخول السيد المسيح القدس، واستقبال الناس له استقبالاً شعبياً حافلاً، حاملين سعف النخيل، وأغصان الزيتون، والريحان، وهو ما يدفع المسيحين حتى اليوم للاحتفال، لذلك درجت العادة عند المسيحيين الاحتفال في أحد شعانين بتسيير المواكب والمسيرات، وهم يحملون أغصان النخيل، إضافة إلى شموع كبيرة تزدان بالورود وأغصان الزيتون.
غسل من الخطايا والذنوب
هذا وقد بينت نساء سريانيات من قامشلو، أن الصوم الكبير يحمل العديد من القدسية في قلوب المؤمنين، وينقي الروح من الخطايا والذنوب التي تملأ النفس بالشهوات، كما باركن هذه الأيام المقدسة التي تسبق عيد قيامة المسيح. حيث تحدثت المواطنة “نورا ملكي” لصحيفتنا “روناهي”، عن طقوس الصيام الكبير: “نصوم أربعين يوماً عن الزفر، ولحوم الحيوانات ومشتقاتها من أجبان وألبان وغيرها، ونعتمد على الطعام النباتي الخالي من المشتقات الحيوانية والدسم، نستنر بهذا الصيام ولا نفطر حتى أحد القيامة يوم عيد الفصح”.
وأشارت، إلى أن الكثير من الناس ليس لهم القدرة على الصيام من كبار وأطفال فلا يصومون الصوم كاملاً، ومنهم من يصوم عن الطعام والشراب من المساء حتى الساعة 11 صباحاً ليفطر في الكنيسة على المأكولات خالية الدم، ومشتقات الحيوان، ومنهم من يصوم 24 ساعة، ويفطر في الكنيسة أيضاً، إذ تختلف طقوس الصوم وممارساته بين الطوائف المسيحية، إلا أن جوهره يبقى ثابتًا باعتباره فترة استعداد ديني تتمحور حول التقشف والتفكير العميق في القيم الروحية.
وتطرقت “نورا ملكي” في ختام حديثها أن الصوم يحمل العديد من المعاني الروحي من تهذيب للنفس، والابتعاد عن الشهوات: “يُعدُّ الصوم الكبير مرحلةً مميزة، فهو فترةٌ من الروحانية والجهد الكبير، إذ نمارس فيه تمارين روحية، ونتبع نظامًا معينًا، ونحاول أن نكتشف جوهر ذواتنا وواقعنا، ونهذب أنفسنا لتغسل خطايانا ونعود إلى الرب”.
كما قالت المواطنة “سميرة حنا“: “معنى الصوم الحقيقي وعقيدته، هو أن اليسوع قضى أربعين يوماً وليلة في البرية، وأن إبليس جرّبه ثم صُلب قبل أن يقوم من بين الأموات، هو ببساطة أنه إذا أردنا أن نستيقظ على طبيعتنا الروحية ونعيشها، فعلينا أن نتخلى عن كل أوهامنا حول هويتنا، ويجب أن نحرم عقولنا من الأفكار الدنيوية”.
واختتمت “سميرة حنا”: “يجب أن نتخلى تماماً عن خطيئتنا، والتي تعني في الواقع استثمارنا الزائف في كل ما هو غير الله، في حب الدنيويات، وهذا ليس تغييراً سطحياً في العادة، بل هو تحول عميق ودائم وجذري في الروح البشرية”.