دجوار أحمد آغا
المقاومة، حق مشروع للشعوب التي تسعى إلى نيل حريتها والخروج من تحت عباءة الاحتلال والاستعمار، والكرد كبقية شعوب العالم، استخدموا هذا الحق من أجل رفع الظلم عن أنفسهم وتحرير وطنهم المحتل والمجزأ بين عدة دول، فقد ثار الكرد وانتفضوا في الكثير من الأوقات في وجه الطغاة المحتلين وضد الظلم، الذي كانوا يتعرضون له، لكن هذه الثورات والانتفاضات انتهت بهزيمة الكرد لأسباب عدة لا مجال لذكرها هنا.
في الربع الأخير من القرن العشرين، وتحديداً في 27 تشرين الثاني 1978، ظهرت مقاومة جديدة وثورة مختلفة عن بقية الثورات السابقة، ثورة يقودها مناضل صلب، كادح، ابن فلاح يعمل بالأرض ومتمسك بها، قائد مفكّر استطاع أن يبني تنظيماً حديدياً صارماً قائماً على نكران الذات، ويتمتّع كوادره بخصائص المناضل الثوري التي كتبها لهم وفصلها تفصيلاً، ثورة حزب العمال الكردستاني المستمرة والمتواصلة إلى يومنا هذا، الثورة التي استطاعت أن تنقذ شعبنا الكردي من الفناء، والاندثار وتعيده الى الوجود.
أسبوع المقاومة
شهر آذار له مكانة خاصة لدى الكرد، فمنذ اليوم الأول فيه، وحتى آخر أيامه، هناك مناسبات أليمة وأخرى مفرحة، ولعل أبرزها يوم النوروز 21 الشهر. لكن؛ الأسبوع الممتد من 21 إلى 28 الشهر، مليء بالأحداث، التي حفرت لنفسها مكاناً ثابتاً ومستقراً في الذاكرة الكردية، وأصبحت هذه الأيام تُعرف (أسبوع المقاومة).
ويبدأ أسبوع المقاومة بصاحب الصرخة التاريخية “المقاومة حياة” كاوا العصر، الشهيد الكبير “مظلوم دوغان”، الذي أشعل نار النوروز ليلة 21 آذار 1982 بجسده الطاهر في سجن آمد العسكري ليصبح شعلة خالدة إلى الأبد، نوروز 1986 وتحت قيادة القائد العظيم “معصوم قورقماز” وصل النضال التحرري للشعب الكردي إلى مرحلة متقدّمة جداً، وتوجها باستشهاده في 28 آذار فختم بذلك أسبوع المقاومة.
هذه القفزة النوعية للمقاومة، حققت تحولاً جماهيرياً كبيراً، فأوقدت “زكية آلكان” نار النوروز في بدنها الطاهر عام 1990، فتحولت إلى شعلة انتفاضة، ثم قامت “رهشان دميرال” بالسير على الطريق نفسه في نوروز 1992 بإشعال النار بجسدها على قلعة “إزمير”، حيث كانت عمليتها بمثابة نداء لأبناء الشعب الكردي في المدن الكبرى بالعودة إلى الوطن، والتحلّي بالروح الوطنية، بعدها في نوروز 1994 قامت “روناهي وبيريفان” بإطلاق نداء الحياة بإشعال نار النوروز في جسديهما في ساحات أوروبا.
من هو معصوم قورقماز “عكيد”
قائد مقدام سجّل اسمه في سجل الخالدين في التاريخ من أوسع أبوابه، ولد “معصوم قورقماز” في ناحية فارقين التابعة لآمد “ديار بكر” سنة 1956، ثم اضطرت عائلته إلى الهجرة بسبب الأوضاع الصعبة التي كانت تمر بها، واستقرت في أيلة “باطمان”، حيث قضى طفولته وشبابه فيها، عُرف منذ طفولته بروحه المتمردة، ورفضه أنواع الظلم، فكان يردد في صغره: “عندما أكبر، سأصبح ثائراً وأقاتل الطغاة والمستبدّين”، كان معجباً كثيراً بالثائر الأرجنتيني “تشي غيفارا”.
تأثر بالحركات الثورية الشبابية في بداية السبعينات، وفي العشرين من عمره سنة 1976، وعن طريق الشهيد الكبير “مظلوم دوغان”، تعرّف على حركة حرية كردستان، التي كانت في مرحلة التدريب والتأهيل، فبدأ بتلقي التدريب الفكري الأيديولوجي والسياسي، بعد انقلاب 12 أيلول 1980 ذهب إلى معسكر للتدريب تابع لحركة التحرر الفلسطينية في لبنان، بقي ثمانية أشهر ثم عاد إلى باكور كردستان.
مسيرة عكيد النضالية
لحظة تعرفه على فكر وفلسفة القائد “عبد الله أوجلان” من خلال مظلوم دوغان، بدأت مسيرته النضالية والكفاحية لتوعية وتنظيم شعبنا الكردي. استطاع معصوم قورقماز “عكيد”، أن يضم المئات من الشبان الكرد إلى صفوف حركة حرية كردستان، بعد عودته من لبنان تعرض لأول إصابة أثناء وقوعه مع أحد مؤسسي حزب العمال الكردستاني كمال بير في كمين نصبه جيش الاحتلال التركي؛ ما أدى إلى إصابته بجروح ووقوع كمال بير أسيراً.
ليس سهلاً أن تبدأ من العدم، لم يكن يوجد شيء تستند إليه سوى الإرادة القوية والحس الوطني، معظم أنصار الحزب كانوا من طلبة الجامعات الذين لا يعرفون من كردستان شيئاً سوى الاسم، كان لا بد من تأمين التموين والسلاح والذخيرة بالإضافة إلى تجهيز مواقع حصينة في الجبال الوعرة التي تخشى الوحوش السكن فيها.
خلال الأعوام 1981 وحتى 1983 لعب القائد “عكيد” دوراً مهماً ورئيسياً في التحضير للكفاح المسلح، فقام بزيارات عديدة إلى مناطق متفرقة في باكور وباشور كردستان، حيث قام بتحضير أماكن مناسبة لقوات الكريلا، التي كان يجري تحضيرها بروية وهدوء.
قفزة 15 آب التاريخية
وخلال عقد حزب العمال الكردستاني مؤتمره الثاني في الفترة الممتدة من 20 إلى 25 آب 1982، قرر المجتمعون العودة إلى باكور كردستان والبدء بالتحضير للكفاح المسلح ضد الظلم والاستبداد التركي المصر على إنهاء الوجود الكردي والقضاء على حركته التحررية، معصوم قورقماز كان شخصية فذّة وقوية، وهو عضو اللجنة المركزية للحزب، فكلفه القائد “عبد الله أوجلان” شخصياً بالإشراف على تأسيس وتشكيل الوحدات الطليعية الثورية أي الجناح العسكري للحزب الذي أصبح فيما بعد (قوات تحرير كردستان) H R K .
وتم انتخاب “عكيد” عضواً في الهيئة الرئاسية المركزية لقوات تحرير كردستان، وتم تكليفه بقيادة المجموعة المسلحة المسماة 14 تموز للقيام بعملية عسكرية في منطقة “أروه” بالتزامن مع مجموعتين ثانيتين لم يقوما بما كُلف بهما، فكانت عملية أروه التي انطلقت في 15 آب 1984 بقيادة معصوم قورقماز “عكيد” الرصاصة الأولى، هذه القفزة التي تعدُّ الخطوة الأبرز، والأهم في النضال التحرري للشعب الكردي في تاريخه المعاصر.
مؤامرة الاستشهاد الغادرة
ونتيجة مؤامرة غادرة ارتقى الرفيق “عكيد” إلى مرتبة الشهادة في 28 آذار 1986 في جبال كابار في ولاية شرناخ.
نعم لا يمكن أن يستشهد العظماء سوى بمؤامرات غادرة، وهو ما جرى مع قائد قوات تحرير كردستان معصوم قورقماز “عكيد”، من أجل كسر الإرادة الحرة لدى المقاتلين، وأضعاف روحهم الوطنية، ومقاومتهم باستهداف قائدهم، لكن خاب ظنّهم وازداد انضمام أبناء وبنات الشعب الكردستاني بشكل كبير إلى صفوف حركة حرية كردستان والالتحاق بقوات التحرير، من بضعة عشرات من المقاتلين، تحولت القوات إلى عشرات الآلاف من المقاتلين المدربين وذوي الخبرة في القتال وأصحاب معنويات عالية ومؤمنين بقضية شعبهم وتحرير وطنهم.
تفاصيل الكمين الغادر
وكتب أحد القادة التاريخيين للحزب، والذي كان يرافق القائد “عكيد” سنوات عديدة، وهو القائد الشهيد “ساري إبراهيم” عن الكمين الغادر، الذي أودى بحياة معصوم قورقماز على النحو التالي: “صعدنا إلى قمة الجبل، كانت تلك الليلة باردة جداً، ونهاية شهر آذار، وكانت بعض الثلوج على جبال كابار، لقد رأينا بعض الآثار في مكان ما، فقام الرفيق عكيد بالبحث عن هذا الآثار، وقال: “هذه الآثار هي آثار درب العدو، يجب أن نكون حذرين”، بدأنا بالسير مرة أخرى، تحت قيادة عبد الرحمن لالاي من منطقة دشتا، والآن لا أتذكر جيداً من كان معنا في ذاك المسير، ولكن على الرغم من وجود الرفيق عكيد، كان هناك رفيقان رفيق خرخلا كمال (ولي تايهان)، وسليم (فوزي آيدين)، وتم إطلاق الرصاص علينا فجأة أثناء المسير، وتعرضنا لكمين غادر نصبه العدو بين الساعة الثانية والثالثة صباحاً، حيث استمرت المعركة هنا قرابة عشرين دقيقة أو نصف الساعة، ثم نزلنا إلى الأسفل، وتجمع الأصدقاء في السهل، ورأيت الرفيق متين (كالندر إيلهان) مصاباً.
بعد أن وصلنا إلى مكاننا، تفقدنا رفاقنا، رأيت الرفيق متين، ولكن الرفيقين عكيد ولازكين لم نجدهما، ولم يكن هناك أي مصاب باستثناء الرفيق متين، ولم نكن نتوقع استشهاد الرفيق عكيد، كنا نتوقع أن الرفيق عكيد ولازكين، انقطعا عن المجموعة، وسوف يأتون إلى مكان الاجتماع، انتظرنا في مكان الاجتماع حتى نشرة أخبار البي بي سي في المساء، ولم يأت الرفيق عكيد، وعندما استمعنا إلى أخبار البي بي سي في ذلك المساء علمنا أنه استشهد، وعلى الرغم من مرور كل هذا الوقت، لا زلنا نشعر بغياب الرفيق عكيد”.
أبرز صفات عكيد
معصوم قورقماز “عكيد” المناضل الجاد والصلب من أجل تحرير وطنه المحتل، وإخراج شعبه من سيطرة العدو المحتل الجاثم فوق صدره، كان قائداً بكل ما للكلمة من معنى، حازماً في قراراته متواضعاً مع رفاقه، يتقرب من الجميع ويعمل على فهم حالة كل رفيق على حدة، فكان شخصاً يعلم جيداً حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، كان يتعامل مع رفاقه بحسب قوة وعيهم وإدراكهم.
قائد متماسك حتى في أصعب المواقف، يزرع الأمل والتفاؤل في قلوب وأرواح رفاقه، يعلم جيداً من يستطيع القيام بالمهمة، التي سيكلّفه بها، لذا كان يختار الرفاق بعناية فائقة وليس بشكل عشوائي، الجميع كانوا يحبونه ويحترمونه ويستمدون القوة والعزيمة والإصرار منه ومن مواقفه الصلبة والشجاعة في مواجهة العدو.
ما قاله القائد عبد الله أوجلان عن الشهيد عكيد
حزن القائد “عبد الله أوجلان” كثيراً على استشهاد معصوم قورقماز، خاصةً في ظل مؤامرة غادرة، حيث ذكر القائد في بيان صادر عنه بعد حادثة الاستشهاد كتب فيها: “بدأ عكيد العمل مع التنظيم، بانضباطية، وديناميكية، والعمل الجاد، والتواضع، كما أصبح كـ “المنقذ للنهج الآبوجي ومناضل من أجل هذا الخط”، وفي مواجهة آلاف السنوات من اليأس في كردستان، كان دائماً مصدراً للأمل، حيث وضع اللبنة الأولى للوحدة، وقاوم ضد أنواع الانقسام والتمييز، وكان دائما يسعى إلى بناء القيم، وعلى هذا الأساس كان يستمر بحياته، وكان يسعى وراء المعرفة، والشخص الذي تعلّم أيضاً يشارك في عملية التعليم، والشخص الذي يعطي الكثير من القوة والمعنويات لرفاقه، يهاب منه الأعداء والخونة بشدة، لذلك كان الرفيق عكيد دائماً هدفاً للعدو، هذا الرفيق، الذي أوصل تاريخ آلاف السنين إلى يومنا هذا، أصبح جسراً، ونتيجة مؤامرة غادرة ارتقى رفيقنا عكيد إلى مرتبة الشهادة في 28 آذار 1986 في جبال كابار بولاية شرناخ”.