دجوار أحمد آغا
“لا وجود لمسألة كردية في كل مكان تبدو فيه حربة البندقية التركية” كان هذا العنوان الرئيسي لإحدى الصحف التركية، التي صدرت في أيار 1925، بعد إخماد ثورة الشيخ سعيد بيران بالحديد والنار، الوحيد الذي وصف الانتفاضة الكردية باعتبارها حركة تحرر وطني، وتظاهرة ضد سلطة الدولة المركزية، والتي تصنّف ضمن خانة حرية الشعوب، كان المحامي والزعيم الهندي جواهر لال نهرو 1889 ـ 1964 حين كتب عنها في كتابه المعّنون، “لمحات من تاريخ العالم” الصادر عام 1935يقول: (هكذا قضى الأتراك، الذين حاربوا تواً من أجل حريتهم، على الكرد الذين يسعون للحرية، أليس ذلك نادراً أن يتحول الشعور القومي الدفاعي الى شعور عدائي؟ أليس نادراً أيضاً أن تتحول المعركة من أجل الحرية فجأة الى معركة ظلم الآخرين وقمعهم؟ وفي العام 1929 جرى تمرد كردي آخر، فقمع بدوره أيضاً، أقلّه مرحلياً، وكيف للمرء أن يعتقد أن شعباً يكون مساعداً للدفاع عن حريته، وأن يدفع ثمناً لقاء ذلك يمكنه أن يقبل القمع؟).
تهيئة الأرضية وتأسيس خويبون 1927
بعد القسوة الفظيعة التي قضت بها الفاشية التركية على ثورة 1925، وإعدام المئات من المثقفين والمناضلين الكرد، وعلى رأسهم الشيخ سعيد بيران، والدكتور فؤاد برخو، والمحامي حاجي أختي، ومن قبلهم النائب في البرلمان التركي يوسف زيا، والجنرال خالد جبري بك، بدأ العديد من المثقفين الكرد الوطنيين، والغيورين على وطنهم وشعبهم، العمل على تهيئة الظروف من أجل إشعال نار ثورة وانتفاضة كردية أخرى للانتقام مما اقترفه الأعداء بحق الكرد ولتحرير كردستان من رجس الأعداء.
اجتمع أحفاد الأمير بدرخان بك أمير جزيرة بوطان (جلادت، بدرخان) مع أولاد جميل باشا (قدري، أكرم) ومعهم علي رضا نجل الشيخ سعيد بيران، وممدوح سليم بك الوانلي، وحاجو آغا زعيم عشيرة الهفيركا، وبوزان شاهين بك زعيم عشيرة البرازي، وحمزة بك مكسي، والدكاترة “نور الدين زازا، وأحمد نافذ بك، نوري ديرسمي”، وعبد الرحمن آغا علي يونس، وعارف عباس، وأوصمان صبري، وجميل سيدا، وقدري جان، ورشيد كرد، وحسن هشيار، وجكرخوين وأحمد نامي…الخ. وقرروا تأسيس جمعية تنظم عمل الكرد، وتُهيء للثورة تحت اسم خويبون. فتم عقد المؤتمر التأسيسي للجمعية في بلدة بحمدون اللبنانية بتاريخ الخامس من تشرين الأول عام 1927.
إحسان نوري باشا وشعلة الثورة
كلّفت جمعية خويبون الجنرال بمهمة القائد العام للقوات الكردية في آكري، بينما تم تكليف إبراهيم باشا هسكي “برو هسكي” بالمهام الإدارية والتنظيمية. شكّل الجنرال جيشاً مكوناً من بضعة آلاف من المقاتلين الكرد المدربين، ومن ثم أقام مستودعات للأسلحة وشيئاً فشيئاً، ازداد عدد المقاتلين بشكل كبير، الأمر الذي دفع الجنرال إعلان الجمهورية، ورفع العلم الكردي فوق ذرى جبل آكري.
الجنرال “إحسان نوري باشا” المولود في بدليس عام 1893 وهو من عشيرة جبران، التي كان ينتمي إليها أحد قادة ثورة 1925 الجنرال خالد جبران بك، تلقى العلوم الأولى في مدارس بدليس ثم دخل المدرسة العسكرية في أرزنجان وبعد تخرجه منها، انضم الى الأكاديمية العسكرية حيث تخرّج ضابطًا برتبة ملازم أول. وتم تعينه قائداً لقوات الحدود التركية – الإيرانية. وتدرّج في الرتب الى أن وصل إلى رتبة الجنرال، لكنه بعد ما شاهد بأم عينه ما قامت به الفاشية التركية بحق الكرد بعد القضاء على ثورة 1925، وإعدام الشيخ سعيد بيران 75 عاماً، قرر المشاركة في انتفاضة جبل آكري.
انتفاضة آكري العظيمة
بدأت جمعية خويبون التحضير للانتفاضة من خلال تطبيق البنود التي اتفق عليها، فبدؤوا بالتواصل مع العشائر الكردية، وطلب منهم مقاتلين، وتجهيزهم بالأسلحة وإنشاء معقل محصّن للقيادة العامة للانتفاضة وبناء العلاقات وطلب الدعم من الكرد في روجهلات وباشور وروج آفا. بالفعل تم اختيار الجنرال إحسان نوري باشا قائداً عاماً للانتفاضة، وجبل آكري مقر محصّن للقياد العامة.
بدأت القوات الكردية بتوسيع مناطق نفوذها حتى وصلت الى حدود آمد “ديار بكر” شاملة معظم باكور كردستان. خافت سلطات أنقرة من الأمر وبدأت بالمؤامرات من خلال إجراء محادثات مع قائد الثورة الذي اشترط عليه قبل البدء بالمحادثات، أن تقوم بتنفيذ عدة أمور أبرزها:
1ـ إعادة العشائر المهجّرة الى موطنها الأصلي.
2ـ إعادة الأراضي المغتصبة من الكرد الى أصحابها الأصليين.
3ـ إلغاء قرار إبعاد المثقفين الكرد إلى المناطق الغربية من الأناضول.
وبالطبع رفض الأتراك هذه الشروط، وبدأت شرارة الانتفاضة من آكري.
خط سير المعارك
في خريف 1927 بدأت الانتفاضة الكردية من خلال مصادمات محدودة مع القوات التركية من جيش وشرطة، بعدها حاولت سلطات أنقرة إظهار الانتفاضة وكأنها حركة تمرد محدودة، لكن في ظل توسع رقعة المنتفضين وسيطرة الثوار، سقط القناع وبدأت الفاشية الكمالية بالتحضير لهجوم كبير ضد الثوار بواسطة الفيلقين الرابع والسادس المتمركزين قرب آكري، تحت قيادة الجنرال صالح باشا. بالمقابل قامت القوات الكردية بشنّ هجمات مضادة في (تندروك، وإيغدر، وأرجيش، ووان، وبدليس، وجبل سيبان، وتشاتاك، وزيلان، وتورباخ، وقارص، وديادين وغيرها).
الكرد وعلى الرغم من سلاحهم البسيط مقارنة بسلاح القوات التركية، لكن بحنكة وخبرة القادة الكرد، وفي مقدمتهم الجنرال إحسان نوري باشا، كبدوا الأتراك خسائر كبيرة دفعتهم إلى الانسحاب من منطقة آكري، على الرغم من التفوق الكبير في العدة والعتاد والقوة الجوية الضاربة، إلا أن الكمالية التركية لم تستطع القضاء على الثوار إلا من خلال عقد اتفاقيات مع الحكومة الإيرانية، وسلطات الانتداب الفرنسي في سوريا للسماح لها بالالتفاف على الثوار عبر حدودها الأمر، الذي وضع الثوار المنتفضين بين نارين مما ساعد قوات حكومة أنقرة في القضاء على الثورة عام 1930.
الانتقام الوحشي والمجازر
وقامت السلطات الفاشية التركية بارتكاب أبشع الجرائم بحق الكرد بمن فيهم المدنيون، وكان الانتقام مخيفاً بكل ما للكلمة من معنى، “فلو كان هولاكو وتيمورلنك على قيد الحياة، لأبديا تعجبهما من تلاميذهما، بل ربما حسداهما على ما قاموا به”، هذا ما كتبه الخبير العالمي في مساعدات التنمية وقتها “جافيد”، 700 قرية سويت بالأرض أما أهلها فقد أبيدوا، تمت محاكمة قادة الثورة البالغ عددهم 53 في محكمة عسكرية، وتم إعدامهم أمام الملأ في آمد “ديار بكر”.
ومن أبشع الفظائع التي قام بها الأتراك الفاشيست وقتها، هو قيام الجندرمة “العسكر” بالقبض على 100 من المثقفين الكرد، من أساتذة، وكتّاب، وطلاّب، وأدباء، وصحفيين، ومحامين، وممن ينتمون الى جمعية خويبون، أو المقربين منها، حيث تم تكبيل أيديهم وأرجلهم بالسلاسل، وأخذهم بمراكب إلى وسط بحيرة وان وإغراقهم هناك.
كما أمرت حكومة أنقرة بتهجير سائر القبائل التي شاركت في المقاومة، فتم إبعاد عشرات الآلاف من الكرد إلى الغرب وسط الأناضول بعيداً بمئات الكيلومترات عن موطنهم، ليتم بالتالي صهرهم في بوتقة الأتراك.
الاستمرار في الانتفاضة
وعلى الرغم مما لاقاه الكرد من صنوف التعذيب والانتقام، إلا أنهم لم يتوقفوا عن المقاومة والانتفاضة مراراً وتكراراً. فبعد ثورة آكري، انتفض كرد ديرسم عام 1937 بقيادة سيد رضا وقاوموا بشجاعة فائقة، لكن الخيانة مرة أخرى والتفوق الكبير في العدد والأسلحة المستخدمة بالطيران، أو الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً، إلى جانب الألاعيب والمؤامرات التي حاكتها السلطات الكمالية ضد قادة الثورة، أدت في نهاية المطاف إلى القضاء على الثورة وإعدام زعيمها سيد رضا والعديد من القادة الآخرين.
ولم يتوقف الكرد أبداً عن المقاومة، رفضوا الاستسلام والخنوع والذلّ، تسلّحوا بالإرادة الحرة وحب الوطن واستمروا في مهمتهم التحررية، التي شكّل ظهور القائد المفكر (عبد الله أوجلان) نقطة تحوّل جوهرية في تاريخ نضاله وكفاحه التحرري، الأمر الذي أدّى الى اندلاع ثورة حزب العمال الكردستاني في 27 تشرين الثاني 1978 وانطلاق مقاومة 15 آب 1984.