د. طه علي أحمد
يتوافق دارسو العلوم السياسية والقانون على اعتبار أن الدساتير تمثّل الركيزةَ الأساسية لكافة ترتيبات المراحل الانتقالية بعد الثورات، حيث تُشكل الأساس القانوني والسياسي الذي ينظم عملية التحول الديمقراطي ويضمن الاستقرار المؤسسي، وتتجلَّى أهميةُ التأسيس الدستوري بهذه المرحلة في كونها تُسهِم بعددٍ من المتطلبات اللازمة لهذه المرحلة مثل إعادة بناء الشرعية السياسية، وضمان الحقوق والحريات، وضمان الانتقال السلمي للسلطة وتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بالإضافة إلى هيكلة المؤسسات الأمنية والقضائية، فضلاً عن تنظيم توزيع السلطة ومنع احتكارها. غير أن أهم ما في ذلك هو دورُها – أي الدساتير – في إدارة التنوع والتوافق الوطني. انطلاقاً من ذلك؛ فإن نظرةً فاحصةً للإعلان الدستوري الذي تم التوقيع عليه بتاريخ 13 آذار الجاري، تكشف عن حلقةٍ جديدةٍ من التناقضات التي تعتري إدارة المرحلة الانتقالية التي يعيشها السوريون بعد سقوط نظام حزب البعث في الثامن من كانون أول الماضي.
الوثيقة الدستورية المذكورة تتضمن بعضاً من الإيجابيات مثل تأكيده على التمسك بوحدة الجغرافيا السوريّة والفصل بين السلطات، والتزام الدولة بتحقيق التعايش والاستقرار المجتمعي وكفالة التنوع الثقافي للمجتمع السوري فضلاً عن مساواة المواطنين أمام القانون في الحقوق والواجبات، وكل ذلك – بلا شك – من الأولويات التي تفرض نفسها في المرحلة الانتقالية الراهنة شريطة أن تأتي في بنيةٍ دستوريةٍ متماسكةٍ وتدعهما خطوات سياسية مناسبة من جانب السلطة الحاكمة. غير أن نظرةً أكثر عُمقاً في هذه الوثيقة الدستورية، التي لم يستغرق إعدادها أكثر من عشرة أيام (من 2 – 12 آذار الجاري)، تكشف عن تناقضٍ بين حِرص واضعي هذه الوثيقة “السبعة” على تحقيق التعايش وكفالة التنوع الثقافي المذكور من جهة وتقديم الضمانات الدستورية الداعمة لهذا التعايش من جهةٍ أخرى، الأمر الذي يفرض التأكيد على أن جوهر الأزمة في سوريا، كغيرها من أزمات الشرق الأوسط، تتمثل في غياب سياسات رشيدة لما يُعرف بـ “الاندماج الوطني” بمعنى عدم وجود مشروع حقيقي لهويةٍ وطنيةٍ جامعة تحفظ وتصون الهويات الفرعية للشعوب المختلفة في المجتمع، ولعل في هذه الإشكالية ما يفسر المعاناة التي عاشتها غالبية الجماعات الثقافية في الشرق الأوسط حينما تنكَّرت لها السلطات القومية الحاكمة بدول المنطقة، وضيَّقت عليها سُبل التعبير عن هويتها الثقافية، كما يبدو بشكلٍ واضح في حالات عديدة مثل الكُرد (في العراق وسوريا وإيران وتركيا) والأمازيغ (في شمال إفريقيا) وأيضاً العرب في إيران وغيرهم ممن عاشوا هذه المأساة تحت هيمنة أحزاب قومية متشددة على مدار العقود الأخيرة.
بجانب ذلك، فإن حالة الاضطراب السياسي والأمني …إلخ تفرض على صانع الوثيقة الدستورية إذن الأخذ بعين الاعتبار كافة التعقيدات الناجمة عن تجاهل الأزمة الهوياتية المُتجذِّرَة في المجتمع السوري، وإن كان ذلك لا يبدو مستحيلاً، لاسيما وأن هناك حالات دستورية اجتهدت في هذا الصدد مثل الدستور المغربي، الصادر عام 2011، حيث أورد في ديباجته ذِكرَ المكونات الثقافية الجامعة للشعب المغربي مثل العربية والإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية، فضلاً عن ذلك روافد الهوية الوطنية للمغرب مثل الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما اعترف الدستور المغربي باللغة الأمازيغية كلغةٍ رسميةٍ للبلاد بجانب العربية، فضلاً عن التزام الدولة بالعمل على صيانة الحسانية كجزءٍ لا يتجزأ من الهوية الثقافية للمغرب الموحد، وكذلك الحال بالنسبة لحماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب وانسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية.
ربما يجادل قائلٌ بأن الاستشهاد بنصوصٍ مكتملةٍ من دستورٍ مستقرٍ وببلدٍ كالمملكة المغربية إنما هو غُبن في حق بلدٍ غير مستقر مثل سوريا، لكن يمكن الرد على ذلك بحقيقة أن جوهر هذه الحالة المُزمنة من “عدم الاستقرار” إنما تكمُن في انعدام الثقة والمخاوف المتجذرة لدى الكثير من السوريين الذين عانوا من “القهر الهوياتي” لعقودٍ تحت حكم حزب البعث، إن ذلك يوجب على أي وثيقة دستورية – سواء مؤقتة أو دائمة – أن تضمن ما يبدد هذه المخاوف أملاً في رفع مستوى الاستقرار المجتمعي؛ كأن تتضمن الوثيقة الدستورية المذكورة والمأمولة أيضاً صيغةً ترُّد الاعتبار للغة الكردية بجانب العربية، و/أو الإشارة إلى دور الشعوب غير العربية (كالكرد، والدروز، وغيرهم) في التاريخ السوري القديم والمعاصر، أما أن يقتصر الأمر على اللغة العربية كلغةٍ رسميةٍ للبلاد دون غيرها، فضلاً عن حصر “الفقه الإسلامي” كمصدرٍ وحيد للتشريع إنما يؤكد التجاهل المتعمد لأية مقومات ثقافية يمكن أن تتشكل منها هويةٌ وطنيةٌ سوريةٌ جامعة، ناهيك عن أن الالتباس الذي يفرضه مصطلح “الفقه الإسلامي” (بشكلٍ مجرد) كمصدرٍ وحيدٍ للتشريع؛ فأي فقه وبأي مرجعية مذهبية يمكن أن يتشكل التشريع في سوريا الجديدة، اللهم إذا كان المقصود هنا هو الرؤى الفقهية التي تعتمدها السلطة الحاكمة، ولعل من مؤشرات المخاوف في هذا الصدد هو إعلان النفير العام من خلال المساجد مشفوعاً بعبارات مثل “حي على الجهاد” التي سبقت الأحداث الأخيرة التي شهدتها منطقةُ الساحل وبخاصةٍ من أبناء الطائفة العلوية والتي أسفرت عن مقتل نحو 1500 مدنياً وفقاً لأحدث التقارير.