بناز عثمان
عانت سوريا لعقودٍ من هيمنة نظامٍ مركزيٍّ قمعيٍّ أنتج ثقافةً سياسيةً تقوم على إسكات الأصوات المختلفة، اليوم، لا يمكن تجاوز إرث العنف إلا بتبنّي حوارٍ يعترف بجراح الماضي، ويُعيد توزيع السلطة والموارد بشكلٍ عادل، دون إقصاء أي شعب.
إن الحرب التي مزقت النسيج الاجتماعي السوري، تفرض نتائجها بناءً على الحوارات الوطنية الحقيقية كأحد السبل النادرة لإعادة بناء الثقة بين الشعوب السورية المتنوعة، وتجاوز منطق المحاصصة الطائفية إلى المشاركة الفعلية لمجمل السوريين الذين تجمعهم الهوية السورية الجامعة.
إن الحوار الوطني ليس مجرد جلسات شكلية تعقد لأجل استثمارات إعلامية دعائية بل هو عملية مستدامة تُبنى من الداخل، وتستهدف تفكيك جذور الأزمة، لا إدارتها من جديد، وإن غياب الحوار الداخلي الفعلي جعل سوريا ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية في مرحلة نظام البعث. لذلك؛ فإن الحوار الوطني الشامل سيعمل على بناء دولة جديدة بواقع جديد وفكر جديد وإدارة جديدة وفق قانون مدني عصري بعيد عن الإقصاء والهيمنة، ويحافظ على النسيج المجتمعي لأبناء لوطن السوري.
سوريا مزيج من العرب، والكرد، والسريان، والتركمان، والشركس، والمسلمين السنة والعلويين، والدروز والمسيحيين والإيزيديين وغيرهم. هذا التنوع كان مصدر إثراءٍ تاريخيًا، لكن الحرب حوَّلته إلى عامل تفجيرٍ اجتماعي.
ويبقى الحوار الوطني الآلية الوحيدة لتحويل هذا التنوع إلى قوة جامعة، عبر الاعتراف المتبادل بالحقوق الثقافية والسياسية لمجمل الشعوب ضمن وحدة الوطن السوري أرضا وشعباً، كوسيلة لإنهاء ثقافة الإقصاء. لذلك؛ ينبغي أن يضم أي حوار وطني على المستوى السوري ممثلي المكونات الإثنية والدينية، والقوى السياسية المعارضة والناشطون المدنيون، والنساء والشباب، الذين طالما تم تهميشهم رغم دورهم المحوري في الثورة والمجتمع.
لا يجب أن يقتصر الحوار على “المصالحة” الشكلية، بل يجب أن يناقش قضايا جوهرية كضمان حقوق المناطق في إدارة شؤونها، وتطبيق قواعد العدالة الانتقالية ومحاسبة مجرمي الحرب، ونبذ ثقافة الثأر والريبة المتراكمة منذ سنوات الحرب، وإعادة المناطق المحتلة، وتهيئة الظروف لعودة النازحين والمهجرين وإنجاز دستورٌ يعترف بالتنوع ولا يُذيبه، دستورٍ عصريٍّ يُكرّس المواطنة المتساوية. وإعادة إعمارٍ شاملة تُوزَّع ثمارها بعدالة، وانتهاج سياسة خارجية متوازنة تحمي البلاد من التبعية.
الحوار الوطني ليس حدثاً لمرة واحدة، بل الحوار عملية مستمرة لبناء عقدٍ اجتماعي جديد، وهو السبيل الوحيد لتحويل سوريا من دولةٍ منهوبةٍ من داخلها وخارجها، إلى وطنٍ يحتضن جميع أبنائه وبناته بمجمل شعوبه الأصيلة.