آرين سويد
في الساحل السوري، كما في كل شبرٍ منكوبٍ في هذا الوطن، يتسلل الموت ببطء، لكنه لا يأتي وحده. تأتي معه قسوة البشر، غياب العدالة، وتحوُّل الإنسان إلى مجرد ظلٍ خائفٍ في زقاقٍ مُعتم. هنا، حيث البحر شاهد صامت على أوجاعٍ تتلاطم كأمواجه، تنمو الجرائم كما ينمو الفقر، ويضيع الإنسان بين يدي من يملك القوة ولا يملك الرحمة.
رمضان، ذاك الشهر الذي كان يوماً موسماً للسكينة، صار وقتاً لانكشاف الحقيقة بأبشع صورها. في النهار، تتراكم الأخبار عن جريمة هنا، وعن سرقة هناك، وعن فقير سقط جائعاً بينما تجّار الحرب يتكدّسون بثرواتهم خلف الأبواب المغلقة. وفي الليل، يحلّ الصمت، لكنه ليس صمت الطمأنينة، بل صمت الخوف، صمت القهر، صمت من لا حول له ولا قوة.
أين الوجع السوري المشترك؟ كيف أصبحنا جماعات متفرقة، يملأ الحقد قلوبنا بدل أن يجمعنا الحزن على مصيرٍ واحد؟ كيف تحول الدم السوري إلى مادة للتفاوض، والألم إلى وقودٍ للكراهية، والفقر إلى سلاح يُستخدم ضد الفقراء أنفسهم؟ هل نبرر كل هذا؟ هل نقنع أنفسنا أن ما يحدث طبيعي، وأنه لا مفر من أن يقتل الجائع جائعاً آخر ليبقى؟
لقد امتد الزمن بنا ونحن نعيش في دائرة مغلقة من التبرير والصمت. من تبرير الفساد، إلى تبرير القتل، إلى تبرير الخيانة، حتى صار كل شيء قابلاً للمساومة، وصارت الحقيقة تهمة، وصار الصوت الحر جريمة. لكن، أما آن الأوان أن نكسر هذه الدائرة؟ أن نختار، ولو لمرة واحدة، أن يكون وجعنا هو البوصلة، لا أصوات الأبواق التي تعلو لتطمس الحقيقة؟
لقد أثخنتنا الجراح بما يكفي. سنوات طويلة من الفقد، والحزن، والألم، بينما أمهات سوريا يحملن في صدورهن ركام الأحلام والذكريات. وداعاً للأمهات اللاتي انتظرن أبناءهن الذين لم يعودوا، اللواتي دفنّ أحباءهن بصمتٍ ولم يجدنَ حتى قبوراً يزرنها، وداعاً لدموع جفّت من كثرة البكاء، ولقلوبٍ سئمت الحزن لكنها لا تزال تنبض رغم كل شيء.
ولأجل هؤلاء، ولأجل من بقي، لنُغلق هذا الباب على لغة الكراهية. لقد أخذت الحرب منّا ما يكفي، فلا ندعها تأخذ ما تبقى من إنسانيتنا. الساحل، الداخل، الشمال، الجنوب- لا فرق، فالجوع واحد، والخوف واحد، والفقد واحد. البحر الذي يغسل حوافّ الساحل يعرف أن الموجة لا تسأل عن اسم الشاطئ قبل أن تصطدم به. فلماذا نسأل نحن؟ لماذا نبحث عن اختلافات واهية بينما الطعنة في القلب ذاته؟
ربما لم يحِن الوقت ليكون العدل حقيقة، لكن على الأقل، لنجعل من الألم جسراً بدلاً من أن نجعله سكّيناً أخرى تمزّق ما بقي من الروح.